الاثنين، 13 أبريل 2015

السماء لا تغفل أبدا



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان
 
السماء لاتغفل أبدا

قصة محمود البدوى


خرجت من دائرة المطار وبيدى حقيبتى .. وكان الجو فى الخارج شديد البرودة كما توقعت ، وبدت السماء شهباء داكنة .. والثلج يتساقط بغزارة .. وأشرت لتاكسى فوقف .. وقلت لسائقه :

ـ أتعرف فندقا هادئا ورخيصا .. فى هذه المدينة ؟
ـ نعم .. وسأذهب بك إلى أجمل فندق هنا .. ولن تدفع أكثر من ثلاثين دولارا فى اليوم .

ـ إقامة كاملة ..؟
ـ بالافطار فقط ..!

ولم أستكثر المبلغ لأنى أعرف غلاء المعيشة فى الدول الأسكندنافية .. ووجدته مقبولا .. ويتحمله جيبى فى الأيام العشرة التى سأقيمها فى المدينة .. وبعد جولة طويلة فى مدينة ساكنة وقف السائق .. أمام بناية خضراء من ثلاثة طوابق .. قريبة من المحيط .. ولم يكن خلفها ولا بجوارها بناء .. حتى حسبتها قائمة وحدها على سيف البحر ..

وأمسك السائق بالحقيبة ودفع الباب الدوار .. ودخلت وراءه مسرعا لأتقى البرد والثلج الساقط ..

وكان هناك رجل متوسط الطول سمين الوجه فى مركز الاستقبال .. استقبلتنا عيناه بنظرة متأنية .. قبل أن نقف أمامه ..

وقال للسائق .. بعد محادثة قصيرة بينهما :
ـ سنعطى للسيد الغرفة 206 فى الدور الثانى مطـلة على البحـر ..

وشكرت السائق ونقدته أجره وانصرف ..

وجاءت سيدة فى رداء أزرق سابغ .. حملت الحقيبة إلى المصعد .. ولم نتحادث حتى حسبتها لاتعرف الإنجليزية وقلــت فى نفسى انها مصيبة أن نتفاهم بالاشارة من أول يوم ..

وكان معها مفتاح الغرفة .. وبعد أن فتحت الباب سلمتنى المفتاح .. ودخلت معى الغرفة وأشعلت الأنوار .. وأزاحت الستر .. ووضعت الحقيبة داخل الدولاب .. ودلتنى على الباب الصغير الداخلى الموصل للحمام .. ثم أحنت رأسها وانصرفـت وأنا أشـكرها ..

وخلعت معطفى وملفحتى .. وكل ما تدثرت به ليقينى من البرد فى الخارج .. وأخذت حماما ساخنا شعرت بعده بالراحة .. وهدوء الأعصاب .. ولكن السكون الذى طالعنى من جنبات الفندق أقلقنى بدلا من أن يريحنى .. فقد كان شديدا وخيل إلىّ أننى الوحيد المقيم فى الفندق .

وغيرت ملابسى ونزلت إلى بهو الاستقبال فى الدور الأرضى .. فلم أجد نزيلا واحدا ، وطالعنى السكون .. وشعرت بالوحشة فليس حولى إلا مقاعد وأرائك خالية ، وستر كثيفة على الأبواب والنوافذ .. رياش وطنافس يسر بها كل نزيل ، ولكنها لم تدخل البهجة إلى قلبى ..

وأزحت ستار النافذة القريبة منى لأستأنس بالمارة فى الطريق .. ولكن الثلج كان يتساقط .. ولا أرى إلا العربات تمضى سريعا .. وبعض العابرين .. يتحركون تحت الثلج .. فرادى .. رجل واحد .. وامرأة وحيدة فى دثار كامل من البرد والثلوج ..

وكان بالقرب منى فى الساحة الواسعة .. رجل على حصان .. ولم أعرف موقعه من التاريخ فما أكثر التماثيل فى هذه المدينة .

والرجل الذى استقبلنى بالحقيبة وأنا داخل .. قد حل محله موظف آخر .. سيدة طويلة بيضاء حمراء الشعر .. قد خلعت عـذارهـا .. واشتغلـت بالكتابة فى دفتر طويل أو بالرد على التليفون ..

وظللت وحيدا فى مكانى أحصى المقاعد من خشب السويد .. وأتمعن فى اللوحات على الحوائط .. وأقلب فى عناوين الصحف التى أمامى حتى أحسست بالجوع .. وكنت أود أن أسأل موظفة الاستقبال عن مطعم .. ولكنى رأيت أن أعرف ذلك بنفسى دون سؤال .. وتلفعت وأصبحت فى الطريق .

ورأيت فى البناية القريبة من الفندق مطعما .. ولكنى تركته ودخلت المدينة أحدق فى اللافتات .. وأصبحت فى الشارع الرئيسى الذى تتجمع فيه كل المتاجر .. وقرأت لافتة تشير إلى مطعم فى الدور العاشر من محل " إرما " ودون أقل تردد ركبت المصعد إلى هناك .

وكان المطعم يشغل السطح كله للبناية .. ووجدته مزدحما ولكنى أخذت مائدة جانبية أعدت لشخص واحد .. وطلبت من الطعام ما راقنى لأن العاملة كانت تجيد الإنجليزية ويسهل معها التفاهم ..

ولما فرغت من الطعام ودفعت الحساب وارتديت معطفى وتحركت إلى الصالة الطويلة .. وجدت إعلانا جذابا عن معرض الف ليلة وليلة الذى جئت من أجله .. ووجدت اسمى وصورتى مع صور الرسامين المتقدمين بعروضهم ولوحاتهم .. ووقفت طويلا أمام هذا الاعلان فقد سرنى وأبهج قلبى .. وحمدت الله الذى ساقنى إلى هذا المتجر الكبير فى اليوم الأول من وصولى .. لأرى هذا وأسر به .

ورجعت إلى الفندق وأنا أشعر بمرارة الوحدة وكآبتها .. ولكن سماعى الموسيقى الكلاسيكية من الراديو الموضوع بجانب فراشى أراح نفسى فنمت نوما عميقا .. واستيقظت فى الساعة التى يقدم فيها الإفطار فى صالة الفندق ..

وفى الساعة التاسعة صباحا رأيت عربة تقف أمام الفندق وينزل منها ثلاث فتيات صبايا وفى عمر واحد بزى واحد .. وقلت فى نفسى لقد بدأ النزلاء يهلون .. كما يهل القمر بعد ظلمة طويلة .. ولكنى أصبت بحسرة عندما عرفت أنهن من العاملات فى شركة التنظيف الخاصة بالفندق .. وأنهن جئن لتنظيف الغرف .. وكل صباح يجئن لهذا العمل .. ومعهن معداتهن الكهربائية .

ورأيت أن أتغدى فى المطعم الذى تناولت فيه طعام العشاء بالأمس .. لأرى صورتى ولوحات ألف ليلة وليلة المعلقة هناك مرة أخرى .

واتخذت طريقى إلى الخارج ، وفيما أنا أسلم المفتاح لموظفة الاستقبال فى الفندق ناولتنى بطاقة .. وكانت دعوة لحضور حفل تكريم أحد الفنانين .

وأدركت أن السيدة صاحبة المطبعة التى ستطبع الف ليلة وليلة باللغات الأجنبية هى التى أرسلت إلىّ البطاقة بعد أن اتصلت بها تليفونيا بالأمس ، وعرفتها بالفندق الذى نزلت فيه .

وكانت الحفلة فى الساعة السادسة مساء .. فهم يبكرون فى موعد الحفلات .. والبطاقة تشير إلى الشارع والمكان .. وقررت أن أركب تاكسيا يوصلنى إليه دون حاجة إلى سؤال ، ولكنى عندما قدمت البطاقة لموظفة الاستقبال قالت لى إن المكان قريب جدا إلى درجة أنى أستطيع مشاهدته من هنا .. لو خلينا البنايات .. فبضع خطوات على رصيف الفندق .. ثم دورة إلى الشمال ومثلها على نفس الطوار توصلنى إلى المنزل 26 .

ووقفت على الرصيف أقرع جرس الباب المغلق .. والمنازل كلها فى الدانمرك مغلقة الأبواب دائما فى النهار والليل .. ليس اتقاء للصوص ولكن هذه هى عادتهم .

وأطلت عينان من الدور الرابع وفتح لى الباب ودخلت وصعدت السلالم إلى الدور الأول ثم الثانى وأنا أتصور أنى أخطأت الطريق .. فليس هذا مكان حفلات تقام .. فلا حركة ولا ضجيج .. ثم وجدت علاقات المعاطف فى زاوية من الباب فخلعت معطفى وكوفيتى وأثناء هذا أقبل فوج فيه سيدة شاهدتنى وحدى .. وتبادلنا النظرات طويلا وشجعنى ذلك على سؤالها :

ـ أتعرفين الإنجليزية .. يا سيدتى ..؟
ـ نعم ..
بنعومة وابتسامة ..
ـ هل هذا مكان تكريم الفنان فيلى VILLY أم أنا أخطأت العنوان ..؟
ـ إنه هو تماما .. وتفضل بالدخول من الباب .

وكانت قد خلعت معطفها ودثارها وبدت متأنقة فياضة الحركة جذابة الملامح وفى عينيها نعاس وصحو يترجران كالزئبق .

وحدثتنى أن اسمى تردد وهم يكتبون عناوين البطاقات وصورتى عندهم فى المطبعة ، وأن السيدة صاحبة المطبعة هى التى أصرت على دعوتى لحفلة التكريم هذه لأعرف الرسامين المشهورين فى هذه البلاد .. وأختلط بهم فى مدة إقامتى القصيرة .. وأنها بعد عرض كل الرسومات التى أرسلت إليها .. أختارت رسمى لأنى الوحيد من بين الرسامين جميعا الذى عرف كيف يبرز روح " شهر زاد " فى اللوحة ويصور كل ما فيها من ذكاء وجمال وفطنة .. وهناك من رسم لوحات جميلة ومطابقة من الشرق العربى .. ولكنهم لم يبلغوا برسوماتهم مستوى فنى .. فرسمى مميز وسرت به السيدة صاحبة المطبعة كثيرا .

وشكرت السيدة مرافقتى لكل هذا الإطراء ..

وتحولنا إلى المائدة الطويلة فى وسط القاعة .. وقد رصت عليها زجاجات النبيذ والبيرة وعصير البرتقال والليـــمون .. وفاكهـة كثيرة .. وأنواع مختلفة من المكسرات ..

وكانت السيدة مرافقتى قد لازمتنى لحظات ثم استأذنت .. ولما وقف من يتكلم عن الفنان المكرم .. عادت إلى جانبى تشرح لى مضمون الكلام .. لأن المتحدث كان يتكلم بلغة البلاد .. وأشاد بالفنان المسافر وعدد مواهبه وجوانب عبقريته .

ثم أقبلنا على الطعام والشراب وشربت كثيرا من النبيذ الأحمر والأبيض وشربت السيدة مثلى حتى لاحظت أثر ذلك فى وهج عينيها وأخذ المدعون فى الانصراف ..

وسألتنى السيدة :
ـ ما الذى شاهدته فى المدينة منذ وصلت ؟
ـ لا شىء له قيمة فى الواقع ..

ـ إذن سنتجول معا .. وأمامى ساعتان أخصصهما لك .. وقد اختارتنى مدام كارين لأكون دليلتك فى الأيام التى ستقضيها هنا .. وأرجو ألا تبتئس لهذا ..!!

ـ أبتئس يا سيدتى .. كيف يكون هذا ؟ إنى أرقص من الفرح .
ـ إذن سنقوم بجولة معا .. والمدينة ساهرة فى الليل وكلها أنوار ..
ـ وقمنا بجولة فى وسط المدينة وكانت المحلات قد أغلقت أبوابها ولكنها ظلت مضاءة تعرض بضاعتها من وراء الزجاج ، وكان سكون الشارع وقلة العابرين يجعلاك تستمتع بالمشاهدة وتشعر بالراحة .

وصلنا إلى مقهى صغير هادىء يقدم الفطير والقهوة والشاى .. واخترنا مائدة فى الداخل .. وشربت القهوة وشربت مثلى .. وحكيت لها باقتضاب السبب الذى جعلنى أسافر .. وكان يمكن أن أكتفى بالبريد بعد أن أرسلت اللوحات .. ولكنى رأيت أن أستغنى عن البريد كلية وأحضر بشخصى لأرى مدينة جميلة من دول الشمال .. يسمونها باريس الصغرى .. ومن رأى باريس الكبرى لابد أن يرى باريس الصغرى .. ثم أحيى هذه السيدة التى فكرت فى طبع قصة عربية على هذه الصورة الجميلة .

وقالت مرافقتى بعد سماعها حكاية سفرى :

ـ إن السيدة كارين Karen معجبة بالشرق العربى منذ صباها .. وكانت بمصر والكثير من بلاد الشرق .. ورجعت فى آخر جولة تحمل نسخة إنجليزية قديمة نادرة من الف ليلة وليلة فى يدها .. وبعدها فكرت فى طبعها فى مطبعتها .. وقالت إن القصة عربية ويجب أن يرسم لوحاتها العرب ، لأنهم أعرف الناس ببيئتهم وأشخاصهم ، وأعلنت فى الصحف وفى المعاهد العليا للفنون وكان من نتيجة الإعلان وجودك هنا .

ـ قد لاتعرفين يا سيدتى أن هذه القصة العربية الفذة والعديمة النظير فى كل ما كتب من قصص والتى بلغت شهرتها كل آفاق الدنيا .. هذه القصة لانعرف ولا نتحقق من مؤلفها حتى الآن !

وهذه القصة هى التى فتحت الآفاق أمام الكثير من كتاب الغرب .. فكتب بوكاشيو الإيطالى الديكاميرون .

وكتبت مرجريت نافار الفرنسية " الهيتاميرون " كما تأثر بها " لامرتين " " جوته " ، وكل من كتب من شعراء وكتاب الغرب عن الشرق .. فهى التى الهبت مشاعرهم وفتحت أمامهم آفاق الخيال .

ـ لقد شوقتنى لقراءتها .. ولكن سأنتظر حتى أقرأ القصة التى فيها لوحاتك ..
ـ شكرا لكل هذا العطف ..

ونظرت فى الساعة ثم قالت ..
ـ سنتقابل غدا بعد الساعة السادسة لنذهب إلى المطبعة .. وسأتلفن لك فى الفندق قبلها .
ـ هل أطمع فى أن نتقابل قبل ذلك لنتغدى معا ؟
ـ إنى أعمل حتى الساعة السادسة مساء .. ويصعب علىّ مقابلتك قبل ذلك ..
ـ إذن نتعشى ..
ـ لابأس من هذا ..

وسررت جدا لموافقتها .. ورافقتها إلى محطة القطار الذى ستركبه إلى بيتها ويقع فى ريف كوبنهاجن .

***

والتقيت بمرافقتى فى المقهى الصغير الذى تحت محل فروك جار froijar ثم ركبنا إلى المطبعة بعد أن أعلمنا السيدة " كارين " .. بقدومنا وسرت بنا ورحبت .. وأرتنا الماكينات وعدد الطباعة الحديثة وعرضت على أجمل مطبوعاتها ..

وقالت وهى تبتسم :
ـ وسيكون الف ليلة وليلة .. أجمل وأروع من كل هذه الكتب ..
ـ بالطبع سيكون هكذا ..
ـ وقد فكرت أخيرا فى طبعة عربية فى لندن .. وستكون لوحاتك فى هذه الطبعة أيضا ..
ـ إن هذا سيجعلنى أشعر بسعادة لاحد لها ..

وجلسنا نشرب الشاى فى مكتبها الصغير الأنيق .. وقالت وهى تشير إلى مجموعة من الصور فوق المكتب .. هذا جدى .. وهذا والدى .. وهذا ابنى " انجر " الذى يعمل معى الآن .. وهم جميعا الذين أسسوا المطبعة .

ـ من دواعى الســرور أن تحتفظى بمكانتهم وصورهم هنا .
وقدمت لى كهدية بعض الروايات والقصص لكتاب من السويد والنرويج والدانمرك .. سلمى لاجرلوف .. أوجست استرندبرج .. هرمان بانج .. ألكسندر كيلاند .. أبسن .. وكلها من طبعتها باللغة الإنجليزية .

ولما تناولت اللفة .. قالت برقة :

ـ لن تحمل شيئا يا سيد " مختار " وتدور به فى المدينة .. سأرسل الكتب إلى الفندق .

وشكرتها وخرجنا أنا ومرافقتى السيدة " كوانا " لنتجول قليلا .. ثم نذهب إلى مطعم للعشاء كما اتفقنا من قبل .. وكانت قد هيأت نفسها لهذه الجولة الليلية فى أجمل ما ترتديه الأنثى فى المساء .. معطف سنجابى أنيق يضم جسمها ويبرز تقاطيعه ووشاح من الصوف دار على عنقها وزادها جمالا وفتنة .

وتعشينا فى المطعم الذى فوق المتجر .. والذى عرفتـه من قبـل ..

وقالت بعذوبة :
ـ لقد عرفت أجمل وأرخص المطاعم بسرعة .. ومن أول يوم ..
ـ كان ذلك مصــــادفة .. محض صدفة .. والبيرة جيدة هنا ..
ـ نعم جيدة .. وستجعلنا نأكل كثيرا ..!

وضحكنا وسألتنى :

ـ كم من الزمن أخذت منك هذه اللوحات ..؟
ـ قد أكون كاذبا إذا قلت انها استغرقت سنة .. الواقع انها استغرقت منى أقل من ذلك .. ورسمت بعد تفرغ ورغبة .. وكنت قد قرأت القصة .. واختلطت بمشاعرى ودمى .. ولذلك كان الرسم سهلا بعد ذلك .. رغم مشاغل الحياة والسعى وراء لقمة العيش .

ـ بالطبع نحن لانستطيع أن نتفرغ كلية .. كما فعل من كان قبلنا .. مشاغل الحياة كثيرة .

ـ انظرى وفكرى بعمق فى الرسام الذى التصق بكنيسة روما سنين وسنين ليرسم على سقفها أروع ما رسم فنان فى الوجود .. وفى الذى وهو يرسم " الموناليزا " جاء لها بفرقة موسيقية تعزف لها أجمل الألحان .. ليظل طابع الهدوء والسكون مرتسمين على وجه الفتاة وهو يرسم .

إننا لانستطيع الآن أن نكون مثلهم .. لم يكن دماغ الفنان مشغولا فى ذلك الوقت بالقنبلة النووية والهيدروجينية .. ودمار الحروب ، كان ذهنه متفرغا لعمله تماما .. كان يرسم فى سكون وتأمل وببسطة فى العيش .

ـ وأظن أنهم جميعا ولدوا فى سنين مقاربة وجاءوا فى عصر واحد .. عصر الأساتذة ..

ـ أجل فميشيل أنجلو على ما أذكر ولد سنة 1475 وهو الذى رسم سقف كنيسة روما .. وخلق الدنيا .. تصورى كيف كان تفكيره .. عندما فكر فى خلق الدنيا .. وفى آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة وطردا من الجنة .

ـ منتـهى الهـدوء والسكينة للنفس وهى ممسكة بالفرشاة ..

ـ ثم رافائيل 1483 وروينز 1536 .. جيل العباقرة والأساتذة كما ذكرت .

وفى زماننا ظهر واحد فلتة بيكاسو ولكنه فلتة لن تتكرر . ونحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى .. ولإسعاد البشرية .. ولكـن هـل تحس البشرية بعملنا .. وما تلاقيه من صعاب .. أبدا أبدا .

وقالت " جوانا " معقبة ..!

ـ والذى يجنى الثمر من تعب الفنان وكده .. هو غيره وأنت تعرف هذا أكثر منى .

ـ إن نظرة التحول طرأت على الفنون جميعا .. تبعا لصخب الحياة وضجيجها .. موسيقى الجاز .. أفلام رعاة البقر .. قنابل ومتفجرات الحروب ودخانها .. تلوثت العقول .. وانمحى صفاء الذهن .. وبعد التأمل الطويل .. وركن الناس إلى السرعة .. السرعة .. والجرى بكل ما يملكون من طاقة وراء صخب الحياة .

عفوا لقد أثقلت عليك .. من كل هذه الخطب فمعذرة .

ـ أبدا أحب أن أرى على وجهك هذه الحماسة للفنون .
ـ سـأريك شيئـا جميـلا سررت به من قبل وشاهدته مصادفة هنا ..
ـ ما هو ..؟
ـ لوحات من الف ليلة وليلة معلقة فى صالة المتجر .
ـ هذا هو من نشاط مدام " كارين " إنها نشطة جدا فى الإعلان .. ولولا الإعلان ما جئت أنت إلى هنا ..!
ـ وسترين صورتى وبعضا من لوحاتى .. ونحن فى الطريق إلى الصالة .

ورأت السرور على وجهى فابتسمت ونزلنا بالمصعد إلى الطريق وودعتها فى القطار الذاهبة به إلى بيتها .

***

وفى الصباح التالى اتصلت بى تليفونيا فى الفندق .. وقالت برقة :

ـ سنتقابل اليوم فى السادسة والنصف مساء بعد انتهاء عملى .. وسنتعشى معا .. وأنا صاحبة الدعوة !

ـ وأقبل بسرور ..!

ـ سيكون اللقاء فى المقهى الصغير الذى شربنا فيه القهوة بالأمس .

ـ سأكون هناك قبل الموعد بساعة !

وتعشينا أنا و"جوانا " فى مطعم اختارته هى .. وشربنا مع الطعام الكثير من البيرة .. وخرجنا نتجول فى المدينة .. وأصبحنا نخرج من ميدان إلى ميدان .. ومن شارع إلى شارع .. وأنا أقول لها :

ـ ألا تشعرين بالتعب .. ألا نركب سيارة ؟
ـ أبدا أنا أحب أن أريك أجمل ما فى المدينة فى الليل .
وكنا نتجه إلى الميناء .. ووجدنا ملهى طالعنا منه السكون .

فهبطنا إليه .. واتخذنا زاوية ركنية .. وطلبنا النبيذ وجلسنا نشرب .. ونستمتع بالموسيقى والرقص .. ثم أقبل فوج من البحارة وكنا فى ظهر الميناء .. فدخلوا الملهى وأخذوا يشربون ويعربدون .. وكانوا من أجناس مختلفة من الإنجليز ومن بحارة الشمال .. وكنت أود أن نخرج من المكان بمجرد دخولهم ولكنى خشيت أن تتصور أنى خفت منهم .. فبقينا كما كنا ..

وكان همهم كله الرقص والغناء بصوت كريه .

وأقبل بحار تجاه مائدتنا وقال بأدب :

ـ هل تسمح لى السيدة برقصة ..

ورددت أنا على الفور قبل أن أعطيها الفرصة للرد بالقبول أو الرفض ..

ـ السيدة لاتعرف الرقص ..
ـ أتوجد سيدة أوربية لاتعرف الرقص ؟
باستغراب شديد ..

ـ أجل توجد وأرجو أن تنصرف .

وهم بأن يمسك السيدة من ذراعها .. فلكمته بجمع يدى فذهب يترنح وسقط على مائدة مجاورة وشعرت بلكمة على صدغى ولم أر من فعلها .

وتكهرب الموقف وجاء اثنان من عمال الملهى فوقفا بيننا وبين من تحرك من البحارة ، وكان صاحب الملهى قد طلب البوليس فدخل سريعا .

وقالت بسرعة :
ـ لنخرج .
فقلت لها :
ـ سنخرج ولكن ليس فى حركة الهارب أو الجبان .
ـ أعجب لموقفك وأنت الغريب ..!

وبعد دقائق أمسكت بيدها وخرجنا .. فإذا بالمطر يتساقط بغـزارة والريح تعصـف ولم نكن مستعدين بملابسنا للمطر فقلت لها :

ـ إن الفندق على بعد خطوات من هنا .. وهو أحسن مكان يأوينا .. حتى ينقشع المطر .

فلم ترد واتجهنا إلى الفندق مسرعين .

ولم ينفعنا الجلوس فى البهو لأن معاطفنا كانت مبللة .. فصعدنا إلى غرفتى وخلعنا معطفينا ووضعناهما على المناشف الكهربائية المعدة للفوط ليجفا من الماء ..

وكان صدارها الصوفى الذى تحت المعطف قد أصابه البلل أيضا .. ولكنى خجلت أن أقول لها اخلعيه ليجف وإلا سيصيبك البرد والزكام وأكون أنا السبب . وتحسسته بيدها ثم أبقتــه كما كان . ولعلها راودت نفسها على خلعه ثم عدلت .

وقالت وعلى وجهها الأسى :

ـ كيف حدث كل هذا ؟ إنى أتعجب ..؟
ـ إن بلدكم هادىء وجميل .. وأهله بسطاء ومن أطيب الناس وأحسنهم خلقا .. ولكن المتاعب تأتيكم دوما من الغرباء عنكم ..

ـ هذا حق .. والخنزير الذى لكمك لم أره .. وإلا لكنت .. وإلا لكنت ..

ونظرت اليها وهى منفعلة .. وأحببتها فى هذه اللحظة كما لم يحب رجل امرأة فى حياته .. وشعرت بالخجل لكل ما حدث ..

وقلت وأنا أنظر إلى عينيها :
ـ سنشرب .. عندى كونياك .. هنا ..
ـ لقد شربنا كثيرا .. يا مختار ..
ـ ولنشـرب أكـثر .. لنتقى البرد وأنت خارجة .. وانسى ما حـدث .. لقد كنت السبب فى احراجك الليلة ..
ـ كيف تفكر هكذا يا مختار .. وأنت الغريب عن البلد .. ولا تعرف فى أى ملهى كنا وأخذنا نشرب ..

وقالت وقد تضرج وجهها :
ـ هل كانت شهر زاد جميلة إلى هذا الحد الذى رسمته فى اللوحة ؟
ـ أعتقد هذا بعد كل ما قرأته عنها .. وأنها كانت أجمل من كل رسم ..
ـ وذكية ..؟
ـ جدا .. ذكاء مفرط .. انظرى كيف كانت تختار الجمل .. وكيف كانت تتوقف عند جملة بعينها .. بعد أن يبلغ شهريار مداه من التشوق واللهفة إلى سماع باقى القصة .. فى هذه اللحظة كانت تتوقف عن السرد .. وتتركه يتمرغ فى شوقه إلى الليالى التالية ..
ـ لقد رسمتها وأنت تحبها إذن ..؟
ـ أجل وستحبينها أنت أكثر منى .. إذا قرأت القصة ..

وحدث شىء جعلنا نقطع الحديث .. فقد أخذ الدم يتساقط من أنفى .. حدث هذا فجأة .. وحدث فى دفء الغرفة والشراب .. وكان الدم قد حبسه البرد الشديد فى الخارج ولكنه انطلق الآن ..

ودخلت الحمام أغسل الدم .. ودخلت ورائى ..

وقالت بلوعة :
ـ أفكر فى الطبيب بسرعة .. والطبيب هنا لايوجد إلا فى المستشفى ..
ـ لاداعى لطبيب أو مستشـفى .. الدم سينقطـع حالا بالماء البارد .

وأمسكت بالفوطة وبللتها بالماء وأخذت أمسح الدم .. وتناولت الفوطة من يدى .. وحركت كفها بنعومة ..

فقلت لها وأنا شاعر بالراحة .. !
ـ هــذه أول أنامل لأنثى تمسح آلامى وأشعر بها فى حياتى ..
ـ كيف هذا .. وزوجتك ..؟
ـ تزوجت مرة واحدة .. وفشلت .. وعدلت عن الزواج كلية بعد هذه التجربة .. فليس عندى من الأعصاب ما يحتمل ترويض الأنثى .. أنا قلق ولا أثبت على حال ..

ـ أنت فنــان ولوحاتك تعبر عن الصبر الطويل وليس القلق ..
ـ ولكنى كنت قلقا وعصبيا معها فاعذرينى ..
ـ وجهك بملامحه يبدو عليه الهدوء وسكينة النفس .. ولكن من عينيك يطل الحزن .. وأدركت هذا من الصورة التى بعثتها إلينا مع لوحتك .. فما سبب هذا الحزن ..؟

ـ أشعر فى أعماقى بالتعاسة .. والقلق ..
ـ هذا ما يشعر به كل فنان .. فلا تروع نفسك ..
ـ ولكنى مروع .. وأخاف دائما من شىء مجهول لا أعرف متى يأتى ..!!
ـ لاتجعلنى أضحك .. أنت فى رونق شبابك .. وهذه حالة مرضية فأبعدها عن رأسك ..
ـ ولكنها موجودة .. فما حيلتى ..!
ـ أنظر انقطع الدم تماما ..
ـ سأقبل اليد التى مسحت عليه .. وكانت السبب ..

وقبلت يدها وعينيها .. وضممتها إلى صدرى ورحنا فى عناق طويل .. غبنا فيه عن الغرفة .. والفندق والزمان والمكان بل عن الوجود كله .

***

وارتدت ملابسها التى جفت وأكملت زينتها وتهيأت للرواح .. وكانت تود أن تذهب وحدها إلى قطار الضواحى الذى سيحملها إلى بيتها .. ولكنى أصررت على مرافقتها ..

وخرجنا والليل متجل وفى قمة جماله وصحوه .. كما تتجلى العروس .. والمدينة ساكنة وأنوارها تتلألأ .. ودخلنا المحطة وكانت خالية إلا بالقليل من الركاب .. فقد قارب الليل إن ينتصف .. ورأينا رجلا يترنح تحت الرصيف والجو أخذ يثلج .. ونظرت إليه وقالت بمكر ..

ـ هل كانت شهر زاد سكرى الليلة فى الفندق ..؟
ـ أبدا .. ولا كان شهريار سكرانا ..!
ـ وما حدث ..؟!
ـ لابد من حدوثه ..

وارتسم على وجهها حنان لم أر مثله على وجه أنثى ..

وسمعنا صوت القطار داخل المحطة .. فقالت :
ـ أقبل القطار .. وسأريك قطع التذكرة ..

وأخذت ترينى الطريقة فى الآلة الأتوماتيكية المخصصة للتذاكر ..
وقلت لها :
ـ إننى من الغباء بحيث يصعب علىّ التعلم من أول مرة ..
ـ سأكرر الطريقة ..
ـ وتخسرين نقودا ..
ـ لا يهم ..
ـ أو أحسن أن أركب من غير تذكرة .. ويغرمنى الكمسارى .. بدلا من كل هذا التعب ..
ـ لن يغرمك الكمسارى ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنه يعرف أنك فنان .. ومهذب .. ووجهك ضاحك ..!!
وقبلت يدها .. ودخلت القطار .

***

وفى الصباح عرفت الطريق إلى المحطة وركبت نفس القطار .

واستقبلتنى جوانا على المحطة التى فيها بيتها .. وكان اليوم من أيام الأحد وهو عطلة .. فتحركت بحريتها وأرتنى الريف .. ببهجته وجماله وأزهاره وحدائقه ومزارعه الصغيرة .. وفيلاته الخضراء .. من طابقين بسقوفها المحدودبة والثلج يغطيها والبرد يلفها والعصافير تزقزق فى أركانها .. والطرق كلها بيضاء كنتف القطن ..

وبعد جولة طويلة بين الفيلات والثلج يتساقط والشمس غائبة .. شربنا الشاى وأكلنا الفطير فى شرفتها المطلة على المزارع ..

وقالت :
ـ سنقوم بجولة أخرى بعد أن يخف سقوط المطر .. وسأريك كلية الفنون .. وسترى هناك لوحات الشباب من كل أجناس الأرض .. وستمر بها وتعجب بهذه المواهب المتفتحة للحياة ..
ـ يسعدنى هذا ..
ـ وسنتغدى هنا ..
ـ ونتغدى هنا ..!

فابتسمـت واكتسى وجهها بلـون الأرجوان .. لموافقتى السريعة .

وقالت وهى تنهض وعلى وجهها البشر ..

ـ إنك حتى هذه اللحظة .. لم تر زوجى .. فتعال لأقدمك إليه ..

وتحركت وراءها إلى الدور الأول من الفيلا ..

وفى قاعة جميلة زينت بالكتب واللوحات والتماثيل الصغيرة .. قادتنى إلى ركن خفيف الضوء ..

وقالت برقة :
ـ سلم على زوجى ..

وكان الرجل يجلس بكامل هندامه على كرسى متحرك ..
وشعرت بيدى وأنا أحاول مدها إليه كأنها تحمل أطنانا من الحديد المحمى .. وعجزت عن تحريكها ..

وهبت العاصفة بكل ثقلها فجأة ..

وانحنيت وقبلت رأسه ..

وأدركت هى ما حل بى .. فأدارت رأسها وغالبت عبراتها .. وخرجت مسرعة من الغرفة .. وجلست بجوار الرجل وأنا مشلول الذراع صامت أخرس والدنيا تدور بكل ثقلها وأوزارها وتحط على صدرى .
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو المصرية بتاريخ 431985 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى بعنوان " قصص قصيرة " =================================

الاثنين، 16 يونيو 2014








انتقلت إلى رحمة الله تعالى السيدة / ليلى محمود البدوى فى 1/7/2013

================================================= 



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان



الاثنين، 10 مارس 2008

الإنسان


قصة محمود البدوى


ـ أتتحدثين بالإنجليزية ..؟
ـ أجل ..!
ـ وذاهبة إلى كوبنهاجن ..؟
ـ لا .. إلى استوكهلم ..

وصمت " صبرى " وشعر بخيبة الأمل .. إذ كان يتمنى أن تكون من كوبنهاجن ليعرف منها بعض ما يجهله عن هذه المدينة الذاهب هو إليها لأول مرة .. وبعد صمته الذى طال سمعها تقول فجأة :

ـ انظر إلى الثلج هل تراه من نافذتك ..؟
ـ نعم .. أراه ..
ـ إنه يغطى قمم الجبال .. إننا نطير الآن فوق هذه المنطقة ..

واستدارت برأسها وأرته الموقع على الخريطة ..

وابتسم " صبرى " من عادة الأجانب الذين يتحركون فى كل مكان وبيدهم الخرائط .. ويحددون الموقع .. ويسيرون على هدى ما بأيديهم دون أن يسألوا أحدا أو يستعينوا بشخص .. الاعتماد على النفس هو أبرز صفاتهم ..

وعجب لسرورها وانبهارها من منظر الثلوج فوق الجبال .. فهو لم يكن أكثر من بياض .. ولم ينقطع المنظر ويتشكل بأجسام بشرية وحيوانية .. ولم تتخلله الألوان التى تأخذ بلب المشاهد .. كما رأى من قبل وهو يطير فوق جبال القوقاز .. ولكنه جاملها وارتضى به كمنظر يسره كما سرها ..

وكانت جالسة فى الصف الذى أمامه .. والمقعد الذى بجوارها خاليا .. لأنهما فى المكان المخصص لغير المدخنين من ركاب الطائرة ـ وهم قلة ـ معظم المقاعد خالية .. إلا من نفر قليل بين السيدات ووجد صبرى نفسه وحيدا بينهن .. واستراح أولا لأنه يكره رائحة الدخان بدرجة فظيعة .. ولكنه ما لبث أن شعر بوحدته بينهن ..

كما وجد أن الحديث معهن لا يليق .. ومعظمهن يسافر مع أزواجهن فى جماعات ..

ولما نهضت إلى مكان الصحف .. ثم عادت تحمل جريدة اليوم .. رآها فى جولتها لا تحادث شخصا ممن كان يتصور أنهم معها .. وبدأ بينهما الحديث ثم انقطع .. ولما طوت الصحيفة سألها ليتأكد :

ـ هل أنت مع هذه الجماعة ..؟
ـ لا .. إننى وحيدة ..
ـ وكنت فى سياحة بمصر ..
ـ لا .. أنا قادمة من جنوب أفريقيا .. زوجى فى السفارة هناك .. وقضيت معه شهرا .. أعتدت هذا كل عام ..
ـ وشاهدت القاهرة ..؟
ـ بالطبع مرتين فى الذهاب والإياب ..
ـ وسرتك ..؟
ـ جدا ..

وظن أنها تجامل .. فما الذى يسر فى القاهرة فى هذه الأيام .. مع الزحام الشديد ورداءة المواصلات .. وسوء خلق سائقى التاكسى .. وقلة الفنادق ..؟

ولكن لشعوره الوطنى لم يعقب على كلامها .. بل أخذ يمتدح لها القاهرة ويشيد بمعالمها الجميلة .. ويتحدث عن القلعة والأهرامات .. والآثار الفرعونية ومنظر النيل فى الليل عندما تسقط عليه القناديل أو يسقط ضوء القمر .. ويموج بالتبر المذاب ..

وأخذته الشفقة عليها وهى تحادثه .. لأنها كانت تلوى عنقها وتستدير برأسها كلما وجهت إليه سؤالا أو سمعت رأيه فى جواب أو سؤال .. وكان يود أن يقول لها :
ـ هل تسمحين لى بالجلوس بجانبك ..؟
ولكنه لم ير أن يقيد حريتها .. ورأى أن من الخير لهما أن يكونا هكذا .. وكان فى استدارة عنقها ما يشوقه .. لأنه يرى لون عينيها من غير أن تسدد إليه سهام لحظها .. كما يرى جمال وجهها فى غير مواجهة صريحة ..

ولما وقفت وهى ذاهبة لتأتى بالصحيفة رآها فى بنطلون أزرق وصدار طويل غامق .. وكانت قد خلعت الجاكتة الصوفية بمجرد جلوسها على المقعد ..

ورأى بجوارها على المقعد كتابين إنجليزيين .. واستعار واحدا منهما فقلبه فى يده قليلا ثم رده إليها شاكرا ..

وسألته :
ـ ألا تحب أن تقرأ ..؟
ـ حسبته رواية .. والأحسن من كل قراءة أن أشاهد الوجوه الجديدة ..
ـ بالطبع هذا أحسن .. أذاهب إلى استوكهلم ..؟
ـ إلى كوبنهاجن ..
ـ لأول مرة ..؟
ـ لأول مرة ..

وأشفقت على شيخوخته وعلى سفره وحده .. فسألته :
ـ ألك .. أقرباء هناك ..؟
ـ لا ..!
ـ وينتظرك شخص ..؟
ـ أجل هناك برقية ..
وكان واثقا من ذلك فقالها بقلب مطمئن ..
ـ أما أنا فذاهبة إلى استوكهلم كما حدثتك .. اشتقت لأولادى ..
ـ أعندك أولاد ..؟
ـ أجل .. ولدان وبنت ..
ـ ولكنك صغيرة على الثلاثة .. وصغيرة حتى على الواحد ..

ورأى وجهها يزداد حمرة وعينيها تتكسران ولا يدرى أكان ذلك خجلا .. أم سرورا لكلماته ..

واستدارت وقالت زامة شفتيها :
ـ هذا ما حدث .. وكما قلت .. أسافر إلى زوجى كل عام .. وأقضى هناك شهرا .. أما الأولاد ففى استوكهلم فى بيتهم وفى مكانهم من الدراسة ..

ـ أتذهبين إلى زوجك فى العام المقبل ..
ـ لا أدرى كل وقت بظروفه ..
ـ إذا عزمت .. فيسرنى أن أكون دليلك فى القاهرة فى الذهاب والعودة ..
وكتب لها اسمه وعنوانه ..
وسرها ذلك للغاية وكتب بأناقة وخط جميل اسمها وعنوانها فى استوكهلم ..

وقدم طعام الغداء .. وكان الركاب الأجانب يشربون البيرة والنبيذ .. إلا " كاترينا " .. فإنها اكتفت مثله بالقهوة وعصير البرتقال ..

ورآها بعد الطعام تسترخى على المقعد .. وتغلق عينيها .. وتود أن تنام .. وتركها صبرى على حالها دون سؤال .. وحاول هو أن يسترخى مثلها .. ولكنه لم يستطع .. كان هناك ما يخفيه ويسيطر على مشاعره .. حتى قبل أن يركب الطائرة .. ويستعد للسفر وهو ما قرأه فى الصحف عن البرد والعواصف فى أوربا .. فى هذا الوقت من السنة .. ثلوج وعواصف ورياح .. فما الذى يفعله هو فى شيخوخته ليقاوم هذا كله ..؟ لا شىء على التحديد .. ولكن حبه للسفر جعله ينسى هذا .. ويتركه وراء ظهره .. فإن ما سيقع سيقع ..

ولما وقف المضيف فى الطائرة عندما أخذت فى الإقلاع يشرح كيف يلبس القميص الواقى من الغرق .. لو قدر وسقطت الطائرة فى المحيط ..

ارتسمت بسمة على محياه .. بسمة سخرية مرة .. وكذلك والمضيفة تشرح كيف يلبس القناع عندما ينقص الأكسيجين .. كانت السخرية هنا أشد ..

هل بعد السقوط فى المحيط .. وتخلخل الهواء حاجة للقميص والقناع .. وهل سيكون هناك نظام وترتيب .. ويد تتحرك فى هدوء لتضع هذا وذاك .. إنها القارعة وما أدراك ما القارعة ..!!

وكانت الطائرة من أكبر ما ركب من طائرات فى حياته .. ولكنها اهتزت مرتين .. ودخلت فى منخفض جوى شديد ..

وصحت " كاترينا " وحولت وجهها إليه .. فقال :
ـ اقتربنا ..
ـ حقا ..
ونظرت إلى ساعتها .. وقالت برقة :
ـ لا .. بقى ساعة ..
ـ أأطلب لك قهوة ..؟
ـ لا .. شكرا شربت منها الكفاية ..
ـ أما أنا فسأشربها .. لأظل متنبها وأنا فى المدينة الجديدة ..

وحدقت فى وجهه .. وأطالت التحديق .. كأنها تستغرب سفره وحده فى هذه السن العالية .. وسألته :
ـ ألا تعرف أحدا فى كوبنهاجن .. خلاف الشخص الذى ينتظرك ..؟
ـ أبدا .. لا أعرف أحدا .. والشخص الذى ينتظرنى لا أعرفه ..؟
ـ لا عليك .. لا عليك ..
قالتها لتطمئنه .. مع أن القلق كان يطل من عينيها الزرقاوين ..

***

وشعرا بأنهما يقتربان من كوبنهاجن .. ومن مهبط الطائرات .. فأخرج أقراصا من الحلوى .. وقدم لها العلبة ..

فقالت بنعومة :
ـ شكرا .. سآخذ قرصا .. وإن كنت لا أحب أن تحرك المرأة فكيها هكذا طويلا ..
وابتسم لرقة مشاعرها ..

ولمست الطائرة بعجلاتها الأرض .. وهم الركاب إلى لفاتهم فى الدواليب التى فوق رؤوسهم .. وأخرجت هى لفات صغيرة ..
وقال لها :
ـ ليس معى سوى حقيبة صغيرة .. وسأعاونك فى الحمل ..
ـ ليس معى ما يستحق المساعدة وسترى .. ووضعت كل ما معها فى كيس واحد بلباقة وكياسة ..
وخرجا من الطائرة ..

وقالت كاترينا باسمة :
ـ سر بجانبى .. وسأدلك على الطريق .. وسنجنتاز ثمانى عشرة قاعة .. وراقب هذه الكتابة .. إنها تشير إلى الخروج ..

وقال لنفسه :
ـ ثمانى عشرة قاعة .. ياللهول .. مالى والسفر وحدى .. وإذا لم تكن هذه الجميلة معى .. فكيف أتحرك ..!

ونظر إلى عينيها .. وقال كأنه يودعها بأحلى ما فى نفسه من كلمات :
ـ وهل كل النساء فى السويد فى مثل جمالك ورقتك ..
ـ وهل ..
وقالت كلمات تدل على سرعة خاطر وذكاء مفرط ..

ثم سألته :
ـ كم عمرك ..؟
ـ سبعون سنة ..
ـ فى سن والدى .. والدى له نفس العمر .. والآن ..
ـ والآن ..!
ـ والآن .. فى هذه الصالة سنفترق .. إننى مجرد عابرة .. ولا أستطيع أن أمضى معك خطوة أخرى .. سأنضم إلى هؤلاء العابرين الذين كانوا معى فى الطائرة وفى طريقهم إلى استوكهلم .. أما أنت فادخل من هذا الباب .. وسيقودك إلى الخارج ..

ووقفا .. وأمسك بيدها .. وشعر بها تضغط .. تعبيرا عن الشكر ..
وظل سادرا فى موقفه .. ثم اتجه إلى حيث وجهته ..

ووقف أمام بوليس الجوازات .. فإذا به أمام ضابط مرح بلحية كثة تغطى عارضيه .. لا يكف لحظة عن الضحك والنكات بكل ما يعرفه من لغات ..

وأزاح الضابط الضاحك عن نفسه ما كان يقلقه .. فخرج إلى القاعة الفسيحة ينتظر حقيبته .. وجاءت الحقائب .. فأخذ حقيبته وعاد إلى مقعده ..

وتطلع إلى الوجوه الباسمة التى حوله .. والتى تضحك فى مرح .. تطلع إلى هذه الوجوه فلم ير وجها واحدا عابسا .. يحمل هما .. أو يعانى من مشكلة .. ولا سحنة منقبضة ولا منكسرة .. ولا نفسا مرهقة .. وجوه ضاحكة مستبشرة تفيض بالحيوية والنشاط ..

وكان فى قاعة مكيفة فلم يشعر بالبرد فى الخارج .. ولكنه شعر به عندما وقف يتطلع إلى المنتظرين فى الخارج .. وكانوا يلوحون لمن فى الداخل بأيديهم .. ووقف وهو يلوح بيده .. ليدل بنفسه على من ينتظره .. ولكنه لم يشاهد أحدا يتبين منه هذه الصفة .. فرجع إلى مكانه .. ثم عاد يتطلع إلى الباب مرة أخرى ويشير بيده ..

وكانت التليفونات أمامه فى أكثر من موقع .. ولكن مع من يتكلم فى يوم السبت .. وبعد الظهر .. ولا أحد فى المكاتب فى هذه الساعة من النهار ..

وعاد إليه القلق .. هل يخرج وحده إلى مدينة لا يعرف فيها أحدا ..
وأول شىء سيذهب إليه هو الفندق .. والفندق بمائة جنيه فى الليلة الواحدة وأكثر من مائة .. فماذا يبقى له من النقود .. بعد ليلتين .. لن يجد حتى أجرة العودة بالطائرة .. كل الوجوه التى حوله ضاحكة وهو وحده المنقبض القلق ..

وأضيئت الأنوار .. ووقف قرب الباب الخارجى يلوح بيده لآخر مرة .. فلم يرد على حركة يده أحد ..
وشعر بالثقل والانقباض .. ولكنه قرر أن يخرج .. وأن يركب تاكسيا .. وسائق التاكسى سيدله على أرخص فندق .. بعيدا عن فنادق السياح ..

وحمل حقيبته وخرج من الباب .. وبصر بها واقفة تنتظره .. رأى صاحبته ورفيقته فى الطائرة .. كاترينا ..

وقالت له بصوت فيه بعض الأسى لحاله :
ـ لم تطاوعنى نفسى على أن أتركك وحدك .. وقد شاهدت من بعيد ما أنت فيه من حيرة .. وأجلت السفر الليلة ..
وهم أن يقبل يدها ولكنه تماسك ..
وركبا سيارة إلى فندق عينته للسائق ..

وكانت الأنوار تسطع والبرودة شديدة .. والسماء على أشد ما تكون من زرقة وصفاء .. والثلوج مكومة على جانبى الطريق والمدينة فى حلة سنجابية ببيوتها وطرقها .. وتكاد من فرط سكونها أن تكون خالية من أنفاس الحياة ..

وأمام فندق صغير هادىء .. وقفت السيارة وأخرج السائق اللفائف والحقائب من السيارة .. وأدخلها فى قاعة الفندق ..

وأمام موظف الاستقبال .. قالت هى قبل أن ينطق هو :
ـ غرفة .. بسرير .. واحد ..!
ودونت اسمها واسمه ووقف هو صامتا .. وصعدا إلى الغرفة ..

ولاحظ الغرفة سريعا بعينيه .. ووجدها أنيقة فى كل أثاثها وصغيرة والحمام بداخلها .. وجاءت فتاة الفندق تدفع الحقائب .. ووضع صبرى يده فى جيبه ليخرج كرونات ..
فقالت له كاترينا بعينها .. لا .. فرد يده ..

وجلسا قليلا بعد أن خرجت الفتاة .. يتطلعان إلى ما حولهما .. وينظران من النافذة .. ويرقبان وضع الأشياء ..

ثم قال لها صبرى :
ـ سأنتظرك تحت ..
وكان يود أن يترك لها حرية تغيير ملابسها على انفراد .. فنظرت إلى الساعة وقالت :
ـ كما تحب .. وسأنزل بعد دقائق .. وهبط بالمصعد إلى الدور الأول .. وجلس ينتظرها فى قاعة الانتظار .. ولاحظ الستائر مسدلة على النوافذ .. وكان يود أن ينتظرها ويعرف حالة الجو فى الخارج ..

وهبطت كاترينا ترتدى معطفا ثقيلا وحذاء عاليا غطى جوربها وساقيها .. وقبعة غطت كل شعرها ..

وشربا القهوة .. وقالت :
ـ سنخرج وأريك المدينة فى الليل ..
وقال وهو يدير عينه فيما حوله :
ـ يبدو أن ليس فى هذا الفندق سوانا ..
ـ إنه مخصص لك وحدك ..

وضحكت واستطردت
ـ هذا الفندق من أجمل وأرخص فنادق المدينة وهو فى الشتاء دائما هكذا .. لأنه يعد قريب من البحر .. البحر وراءنا على بعد خطوة وسنخرج إليه بعد جولة قصيرة فى المدينة ..
ـ نطلب تاكسيا ..
ـ لا .. الأحسن أن نتحرك بأقدامنا ..

كان يعرف أنها تراعى حالته المالية ولم يكن سائحا بغرضه .. ولكنه جاء ضيفا وليس فى جيبه إلا القليل من المال وعلى هذا الوجه سافر ..

ونهضت كاترينا وبعد أن لاحظته وراعت أنه تدثر تماما وغطى رأسه .. خرجا من الباب .. إلى البرد والليل ..

وكانت الطرق خالية تقريبا من المارة .. وقد جرفت الثلوج وتلألأت الأنوار فى أعالى الطريق وفى الحوانيت المغلقة .. وشعر صبرى رغم البرد ولفح الهواء بالراحة .. ولم يحاول أن يمسك بذراعها حتى بعد أن سارا أكثر من مائة خطوة وهو مبهور بكل ما حوله من جمال ..

وعند مفترق الطرق أمسكت هى بذراعه .. ولاحظ إشارة المرور .. من غير جنود فى كل مكان ولاحظ الهدوء والأمان المطلق .. ولاحظ الجمال فى كل ما حوله .. والأناقة التامة والحيوية والنشاط عندما دخل فى قلب المدينة .. جرى الدم فى عروقه مثلهم وكان فى مثل نشاطهم ..

وقالت له برقة :
ـ لماذا تجرى ..؟
ـ لقد عدونى بسرعتهم ..
فضحكت ..

وأخذا يستعرضان واجهات الحوانيت وفكر فى أن يشترى لها هدية ..أجمل هدية قبل أن تتركه فى الغد .. وكان فى رأسها نفس التفكير .. هدية صغيرة له من قبل أن تفارقه .. كانت تقف طويلا أمام ربطات العنق ..

وكان يقف طويلا أمام الإيشارب .. والقبعات وكل واحد منهما يعرف ما يدور فى رأس الآخر ..

وكانت تقول له بعينيها :
ـ عندما تعود إلى القاهرة .. أرسل كل ما تبغيه وكل ما تحبه من هدايا ويكفى منك بطاقة بريد .. أما هنا .. فلا .. لاشىء رخيص .. الأسعار عالية فى كل دول الشمال ..

ووجدا مطعما فقالت له :
ـ سنتعشى هنا بعد هذه الجولة .. لأن الفندق ليس فيه عشاء .. الإفطار فقط ..
ـ كما تحبين .. ولا رأى لى .. ما دمت دليلى ..
ـ ربما تفضل الذهاب إلى ملهى ليلى .. وتشرب البيرة والنبيذ وترى كوبنهاجن ..

وحدق فى عينيها وهما تترقرقان فى صفاء ..

وقال :
ـ معك أشعر بأنى أحتوى كل ما فى الدنيا من جمال ..
وفاض وجهها بالسرور ..
ـ عندما تشعر بالجوع حدثنى ..
واقتربا من مطعم آخر .. فقالت على الفور ..
ـ سندخل هنا ..
ودخلا ..

واختارت هى مائدة بالداخل .. وجاءت العاملة فحادثتها كاترينا ووضعت العاملة أمامها أدوات المائدة وزجاجتين من البيرة ..

ونهضت كاترينا وقالت له :
ـ هل تأتى معى لتختار عشاءك .. أم أختاره لك ..
ـ أرضى باختيارك ..
واختارت له فى طبقه السمك .. والكبدة .. واللحم .. وسلطات كثيرة .. ثم رجعت تختار لنفسها ..
وجعلهما البرد يأكلان كثيرا .. وكانت تود أن تقاسمه فى ثمن الطعام ولكنه رفض ولاحظت أنه أعطى العاملة مبلغا تعتبره كبيرا ..

فسألته وهما يخرجان :
ـ هل أعطيتها كل هذا لأنها جميلة ..؟
ـ يا سيدتى .. إنهن جميعا جميلات .. ولكن لا أجد بينهن .. ولا فى الدنيا بأسرها فى مثل جمالك .. وأكرمتها لأنها كانت لطيفة معك ..

وفى طريق العودة إلى الفندق أمسكت بذراعه ولما صعدا إلى الغرفة .. بدأ يشعر بأنه ليس أهلا لما يواجهه .. فهؤلاء الناس بسطاء ويأخذون الحياة بمثل ما فيهم من بساطة .. ولكنه هو عاش فى العقد .. فكيف يتخلص من كل هذه العقد ..

وكان فى الغرفة مقعدان فجلسا عليهما وفتحت كاترينا الراديو على موسيقى هادئة .. وخلعت حذاءها الطويل ..

وقالت له وكان لا يزال فى كامل ملابسه :
ـ هل تحب أن تنزل إلى الطابق الأول ونشاهد التليفزيون ..؟
ـ لا .. الأحسن نستريح ..
ـ إذن أخلع معطفك ..

وفتحت له الدولاب وخلع المعطف والجاكتة .. وعاد ينظر إليها ويحدد لنفسه المكان الذى سينام فيه .. سيضم المقعدين معا .. ولكن بأى شىء سيتغطى .. وليس على السرير سوى غطاء واحد .. ملاية وبطانية ثقيلة .. هل يأخذ من فراشها ويكون السبب فى مرضها وقد تعبت من أجله وتحملت فى سبيله كل هذه المشقة .. وقرر أن يتغطى بالمعطف ..

وكان يود أن يسألها ما الذى كتبته بخطك فى دفتر الفندق .. ولكنه وجد فى مجرد السؤال حماقة ..

وسره جدا وجود الحمام فى الداخل .. فدخلت هى وغيرت ملابسها وخرجت ببيجامة صوفية بيضاء وكأنها من بنات الحور ..

ووضعت ملابسها فى الدولاب .. وقالت :
ـ هل تحب أن تأخذ حماما .. إنه ينعشك ..
ـ اغتسلى أنت من تراب القاهرة أما أنا فقد تعودت عليه ..
ـ ليس فى القاهرة تراب .. بل نظافة وجمال فى كل مكان ..

وخجل من قولها لأنها تقول كل ذلك من أجله .. وانسابت كالطيف إلى الحمام وعاد ينظر من النافذة .. وسمع صوت الدش الساخن فأدرك أنها تعرت واستسلمت للماء الدافىء .. وشعر باضطراب ..
فلأول مرة يجتمع مع أنثى غريبة عنه دون سابق معرفة فى غرفة واحدة ..
كان صوت الماء يقلقه .. ويسبب له مشاعر صارخة ..

وعاد بمشاعره وأدرك حس المرأة الريفية فى بلده .. التى لا تستحم قط حتى وزوجها فى البيت .. لابد أن يخلو البيت تماما من كل أحد .. ثم تدخل بعدها إلى الحمام ..

وخرجت كاترينا تفرك شعرها وتدلكه وتنشفه .. ثم جلست إلى المرآة فحول هو وجهه إلى النافذة ..

وسألته :
ـ لماذا تستدير ..؟
ـ يشوقنى منظر الليل وتساقط الثلوج .. والمرأة لا تحب أن ينظر إليها وهى تتزين ..
ـ ولكن أحب أن أرى وجهك ورائى وأنا جالسة هكذا .. وأرى فيه وجه والدى ..
ولسعته الكلمة على ما فيها من حقيقة ..

فسألها :
ـ والدك فى استوكهلم ..؟
ـ أجل ..
ـ وتعيشين معه ..؟
وابتسمت وأجابت :
ـ لا .. من سن العشرين وأنا أعيش وحدى حتى قبل الزواج .. ومثل هذا يحدث للشاب فى دول الشمال .. وستجد هذا فى كوبنهاجن عندما نتجول فيها غدا وتختلط بناسها .. كل بحياته المستقلة .. ولكن الحنين إلى الأسرة قد يعود أكثر مما تتصور ويقدر خيالك .. لقد رأيت فيك وجه والدى الذى ابتعد منذ عشرات السنين .. وشعرت نحوك بعاطفة لا تستطيع تفسيرها .. فهل تفسرها أنت ..؟

وشحب لون وجهه وقال وهو يوليها ظهره :
ـ إنها مجرد شفقة .. وأرجو أن تظل إلى أن نفترق .. وسأظل أحتفظ لك بهذا الجميل ..
ـ هيا إلى الحمام ..

وخرج بعد قليل وقد أنعشته المياة الدافئة .. وكأنها غسلت أوضاره .. وطالعها بوجه ضاحك ..

وسمعا الموسيقى والغناء بالإنجليزية .. وتحدثا كثيرا عن أفذاذ الرجال فى العالم الذين خدموا الإنسانية فى كل مكان ..
وشعرا بالحاجة إلى النوم ..

وانتفضت كالعصفور وقالت وهى تشير إلى الفراش :
ـ أتحب أن تنام بالداخل أم بالخارج ..؟
ـ لن أنام بالداخل ولا بالخارج .. سأنام على هذا المقعد ..
ـ مستحيل هذا .. ستجعلنى قاعدة وجالسة هكذا إلى الصباح .. لماذا تتعبنى ..؟

وظل فى مكانه يحاورها .. وأمسكت بيده وطاوعها وذهب وراءها وكانت تريد أن تنومه بالداخل ..
ولكنه قال لها :
ـ دعينى فى الخارج لأنى أستيقظ مبكرا ولا أحب أن أزعجك فى نومك وأنا أتحرك ..

ودخلت وانزلقت بخفة قبله وسحبته .. واسترخى على المخدة المحشوة بالريش .. وبخفة سحبت البطانية والملاءة عليهما معا وأغلقت النور ..

وظلت تتحدث وهى نائمة ورد عليها ثم تناوم .. وشعر باضطراب شديد وهو بجوارها وملاصقا لجسمها .. وخشى أن تشعر به وهو يرتعش .. فظل متماسكا إلى أن أحس بأنها استغرقت فى النوم ..

فانسحب على مهل .. وتمدد على المقعدين وتغطى بالمعطف .. وكانت الغرفة دافئة فلم يشعر ببرد يجعله لا ينام ..

***

ولما استيقظت وفتحت عينيها وجدته بكامل ملابسه .. فأسرعت إلى الحمام ..

وقالت له أنها ستسافر بالقطار إلى استوكهلم فى المساء .. لتقضى النهار كله معه .. وقبل سفرها ستسلمه إلى زميلة لها فى الجامعة .. وستذهب إليها فى بيتها فى الريف الملحق بالجامعة .. ومن هناك سيجد الفرصة لمشاهدة ضواحى كوبنهاجن ..

واتصلت كاترينا بصديقتها انجلينا تليفونيا لتعلمها بمقدمهما بقطار الضواحى .. فقالت لها هذه أنها ستنتظرهما بسيارتها على المحطة ..

وخرجا من الفندق بالحقائب بعد دفع الحساب واستقلا تاكسيا إلى المحطة .. وقالت تداعبه .. أمام آلة قطع التذاكر ..
ـ هل تعرف تشغيل الآلة ..؟
ـ أجل .. كم كرونا هناك ..؟
ـ خل عنك القطار قادم ..

وقطعت التذكرة وأسرعا إلى القطار بالحقائب .. وأجلسته بجانب النافذة ليرى جمال الضواحى وانطلق القطار كالسهم .. وحوله الفيلات الخضراء على الجانبين والأرض بياض فى بياض .. وسقوف الفيلات مغطاة بالثلوج والطرق تموج برغاوى الصابون منازل صغيرة جميلة بسقوف محدودبة من طابقين .. ثم من طابق واحد .. ولا أرجل حولها ولا حس إنسان فى داخلها لكثرة تراكم الثلوج ..

وفى الضاحية الهادئة وجدا صديقتها " إنجلينا " تنتظرهما فى داخل المحطة ولم يظهر على وجهها الاستغراب وهى ترى الغريب بل رحبت وأدخلتهما فى سيارتها الصغيرة التى تشبه فى سوادها الخنفسة .. وحشرت الحقائب حشرا ولكن بنظام وزحفت بها على الثلج وهى تقول كأنها تسمع " صبرى ":
ـ بهذه الخنفسة أذهب فى الصيف إلى ألمانيا .. والنمسا وإيطاليا .. فلا تتصور أنها عاجزة عن السير .. إنها أحسن من كل السيارات الكبيرة ..
ـ نرى هذا بوضوح .. وكل شىء يرجع إلى براعتك فى السواقة ..
ـ نعم .. نعم .. وضحكوا

وبلغت فيلتها .. ولم يكن فى الفيلة سواها .. وقدمت لهما الكعك والشاى وقالت :
ـ بعد قليل سنذهب إلى المدرسة الملحقة بالجامعة .. لنشاهد رسوم الطلبة وأعمالهم فى الرسم والحفر وصنع التماثيل ..

وكانت السيدة " إنجلينا " فى سن " كاترينا " ولكنها أكثر منها سمنة وأقصر عودا .. وكان وجهها أبيض مستديرا كوجوه الألمانيات .. وتبدو وهى فى سن الأربعين فى رشاقة وحيوية الفتيات فى سن العشرين .. وكان وجهها الضاحك يتأمل ويقرر فى لحظة واحدة .. فقد أدركت أن كاترينا وقعت على هذا الضيف فى سفرها وإن لم تعرف بعد أن الضيف مصرى وجاء فى مهمة علمية بحتة ..

وأجلستهما وراء شرفة زجاجية ليتمتعا بمنظر الثلج الساقط على الحقول .. وذهبت وعادت تقول :
ـ والآن سنذهب إلى مدرسة المواهب .. الملحقة بالجامعة وأظنك لا تعرف أيها الجنتلمان .. أن كاترينا رفيقتك فى السفر .. اشتغلت هنا كمدرسة سنتين متصلتين ثم تركتنا ..!

ولم يكن صبرى يعرف إلى هذه اللحظة أن كاترينا تشتغل مدرسة أو اشتغلت مدرسة .. وسرته هذه المعرفة فقد وقع على انسانة مثقفة وحمد الله على أنه إلى هذه الساعة لم يقع بينهما ما يجعلها تسىء الظن به ..
واستطردت إنجلينا :
ـ وأرجو أن نجد العميد ليشرح لك كل شىء فى مدرسة المواهب ..

ولم يجدوا العميد لأن اليوم كان يوم أحد .. ووجدوا الأستاذ هيرمينى أستاذ اللغة الإنجليزية .. وشعر صبرى برجفة عندما أهل عليهم هذا الأستاذ بوجهه .. شعر برجفة لم يشعر بمثلها وهو يلاقى إنسانا .. وجه أبيض طويلا بلحية خفيفة .. وعينين خضراوين تبرقان .. وتتحدثان بالطيبة والدماثة ولين الجانب .. والترحيب بكل إنسان ..

تقدم الأستاذ " هرمينى " ودار معهم فى الحجرات يشرح الرسوم والتماثيل التى يصنعها طلبة من كل أجناس الأرض يأتون إلى هذه المدرسة .. ويقيمون فيها داخليا ليوسعوا من مداركهم ، ويطلقوا العنان لمواهبهم المحبوسة .. دراسة حرة فى الاجتماع وعلم النفس والفسفة واللغات والرسم والحفر وصنع التماثيل ..
كان فى الحائط وجوه مرسومة رسمه الطلبة أشبه بوجوه نيرون .. جانكيز خان .. هتلر .. موسلينى ..وأشار الأستاذ " هيرمينى " إلى هذه الرسوم وقال وهو يشرح ويعلق :
ـ لماذا هؤلاء فقط .. ولماذا دار هؤلاء فقط فى رؤوس الطلبة .. وأخرجوهم بهذه الصورة .. ولماذا لا يكون معهم كل طغاة البشرية ..؟ كل من حاول من عصر نيرون تدمير البشرية وتلطيخ وجهها بالطين ، الذين ألقوا القنبلة الذرية ، والقنابل السامة على الشعوب الآمنة ، والذين عذبوا الأبرياء فى السجون ، وهتكوا أعراض النساء ، والذين سحقوا بجيوشهم ودباباتهم الأطفال الرضع .. والذين سمموا دم البشرية بحيلهم وخداعهم ، وعلقوا رجالها الأفذاذ فى المشانق ليخلوا لهم الجو لتدمير الحياة .. لماذا اختار الطلبة هؤلاء فقط ..؟ لا أدرى ..
واستدار الأستاذ " هيرمينى " وسأل صبرى :
ـ هل أعجبتك الرسوم والتماثيل ..؟
ـ إنها تعبر عن مشاعر صادقة .. استفادت من الدراسة وأفادت .. مواهب انطلقت من عقالها ..
وظهر السرور على وجه الأستاذ هيرمينى وقال :
ـ شر ما يصيب الإنسان هو ألا يجد متنفسا لموهبته .. وهنا جعلنا هذه المدرسة للتنفيس .. إننا لا نسجن عاطفة ، كما لا نحب أن نسجن إنسانا ..
إن البشرية تعذبت من الطغاة الذين دمروا نفس الإنسان .. بأى صورة من الصور ، إن هذا الشاب الذى لطخ هذا الوجه الذى تراه وشوهه يبحث فى نفسه عن آلة يدمر بها كل من يقف فى طريقه .. وقد وجد هذه الآلة فى رسم هذه الصورة البشعة .. واستراح بعدها ..
ودار بهم الأستاذ هيرمينى فى كل القاعات ثم قال :
ـ والآن سنذهب إلى المكتبة ونستريح ونشرب القهوة .. وفى المكتبة رأى " صبرى " معظم أدباء العالم مرسومة بيد الطلبة .. جويس .. همنجواى .. دكنز .. اسكار وايلد .. دستوفسكى .. تولستوى .. جوته .. تشيكوف .. كريستيان أندرسون .. أوجست استرندبرج .. سلمى لاجرولوف ..
وقال هيرمينى :
ـ هذا همنجواى فارس الكتاب فى الحلبة وأبلغ من كتب بالإنجليزية .. يسقط صريع الوساوس .. لأنه وجد أن حياته عبث فى عبث .. ورسالته لم تحقق شيئا ابتغاه وسعى إليه بأظافره .. لقد اشترك فى الحروب ولمس أوضار العالم بأصابعه العارية .. ولكنه لم يوقف حربا ، ولم يستطع أن يدافع عن مظلوم .. إن العالم يحركه رجال السياسة حسب أطماعهم .. ولهذا انتهى بالانتحار كما رسمه الطلبة ..
ودكنز الذى صور حوارى لندن وأزقتها وأعاد بكتاباته إليها النور والنظافة .. وصور بؤس أطفال الملاجىء .. انظر إليه .. لقد رسموه فى حانة قذرة يهذى .. وقد سقط القلم من يده ..
وهذا اسكار وايلد المتألق فى هندامه وكلامه يخطب فى أمريكا الفن للفن .. ويخرج من السجن شريدا طريدا .. ليعيش فى باريس جائعا معذبا كما تراه الآن وكما رسمه الطلبة ..
واستدار الأستاذ إلى صبرى وسأله :
ـ هل قرأت يوليسيس .. لجويس ..؟
ـ منذ سنوات ولكنها لا تنسى ..
ـ يقول " فورستر " وهو استاذى الكبير عن هذه القصة :

ـ لقد لطخ جويس فى هذه الرواية وجه العالم بالوحل .. رمى فى وجه العالم الأوحال .. ومسز " بلوم " المرأة الهلوك المتعطشة لكل رجل ولا ترد يد طالب ، هى فى نظره امرأة العصر ، وكذلك كان يلوم نفسه الشهوانى المتقلب ..
وغرضه من هذا هو تشويه وجه البشرية مادامت لم تسع إلى الخلاص من أوضارها ..
سقطت حضارتها ، وسقطت كل المظاهر البراقة فيها ، وكل مظاهر التقدم .. مادامت لا تستطيع أن تدافع عن إنسان مظلوم ، ولا تقف فى وجه مدمر طاغية حرب ، حرب لسبب ولغير سبب .. دمار وجوع ..

وأضاء وجه الأستاذ " هرمينى " وجه الإنسان وهو يشير إلى تولستوى وديستويفسكى المرسومين على الحائط ..
ـ انظر إلى هذين ، لا يوجد من كتاب العالم من لاقى مصيرهما المحزن .. إن ما سعى إليه هؤلاء وتسعى إليه البشرية هو خير الإنسان .. ويجب أن نأخذ عظة من الذين دمروا الحياة .. ولا نعاود تدميرها . إن الرجل الذى يذهب من السويد إلى أقصى الأرض ليعالج البشرية من مرض الجذام .. هو الذى نصنع له التمثال .. وليس الذى يخترع القنبلة الذرية .. وقنبلة النيترون .. ويخترع التدمير ويقود الجيوش إلى الحروب ..وإننا لا نصفق للذى يضع قدمه على أرض القمر .. ولكنا نصفق للذى يغسل عن البشرية عارها .. من الجوع والبطالة وكل صنوف الدعارة التى يسببها الجوع .. إن حياة البشرية وسعادتها مرهونة بخيار رجالها .. إن هذا الكلب سيقتله البرد لو ترك هكذا فى الخارج كما تراه دون مأوى ودون دفء ، وكذلك المريض فى هذه الفيلات التى نشاهدها ، وكل جائع فى الأرض يجب أن نوجد له القوت أولا قبل التباهى بركوب السحاب والوصول إلى الكواكب ووضع الأقدام والسير بها على سطح القمر ..
إن هذا كله مظاهرة تهريجية إلى عالم الكواكب ، وننسى الجوع والبطالة والتشرد فى كل مكان ، ونسعى إلى التفاخر ، ولا شىء غير التفاخر ، والله الذى خلق السموات والأرض وما بينهما يعرف حماقة هؤلاء ..
وأنت يا أستاذ صبرى ، كما علمت من كاترينا .. أستاذ لغة وتدرس للطلاب ، وقد سرنا هذا للغاية ، ونحن نقوم بنفس عملك ، ولكنا وقبل تعليمهم اللغة ، نعلمهم كيف يعيشون فى الحياة ، ويسعون إلى الخير لكل إنسان مهما تكن جنسيته وتكن صفاته .. ولنسأل أنفسنا بعد كل ساعة تمضى من عمرنا ، ما الذى فعلناه للبشرية لنخفف من آلامها .. وأرجو أن تسمحوا لى بالغياب لمدة ساعة سأزور فيها بعض الأصدقاء فى الفيلات المجاورة .. وبعدها سنجلس جميعا لتناول الغداء ..
وتغدوا جميعا فى قاعة الطعام وتغدى معهم هذا الإنسان الأستاذ هيرمينى .. بوجهه المشرق الضاحك الوضاء فى كل ساعة ..
***
ولما اقترب موعد سفر كاترينا ترك الأستاذ وإنجلينا .. المكان لكاترينا وصبرى رفيقها فى السفر ليكونا فى خلوة إلى حديث خاص أو إلى عناق قبل السفر .. ولكنهما لم يتعانقا وافترقا فى لوعة ..
وذهبوا جميعا يودعون كاترينا فى المحطة وعادوا إلى المدرسة وخصصت حجرة لينام فيها صبرى .. وأخذت السيدة إنجلينا ترعاه وتؤنسه وتسمعه أعذب الموسيقى .. وتقص عليه أجمل ذكرياتها مع كاترينا .. واستراح إليها صبرى لوداعتها ورقتها وفرضت عليه احترامها .. وهناك نساء يفرضن عليك الاحترام من أول لقاء .. ولما قرأت فى عين ضيفها النوم تركته لينام ..
ودخل صبرى حجرته ونام وبعد منتصف الليل تحرك إلى دورة المياة وكانت خارج الغرفة فبصر من وراء الشرفة الزجاجية شبحا نائما تحت الثلوج ..
ورغم تساقط الثلج بغزارة لبس معطفه ودفع باب الشرفة وخرج إلى الحديقة واقترب من الشبح فعرف أنه الأستاذ هيرمينى بوجهه الأبيض وقد طمرته الثلوج فأدرك أنه كان يتجول فى الحديقة أو يزور شخصا فى الفيلات المجاورة وأدركه التعب وهو راجع أو حدث له توقف فى القلب فسقط فى مكانه ..
واقترب منه صبرى جدا .. وهتف باسمه وحركه .. ولكنه كان بغير حراك .. مات ..
فما الذى يفعله صبرى فى هذا الليل المثلج ..؟ يسرع إلى منزل إنجلينا .. لا .. فى هذه الساعة ..؟ لا .. لا شىء يستطيع فعله وهو وحده فى هذا الجناح . عاد إلى غرفته يرتعش من الخوف لقد مات الرجل الإنسان .. مصباح المدرسة ونورها فى يوم قدومه فأى نحس وأى عذاب ..!! لقد جاء إلى هذا المكان ليحضر جنازة أعظم إنسان رآه ..
ظل فى مكانه من الحجرة يرتعش ويبكى ..
***
ولما ظهر النور من وراء الزجاج كان الثلج قد انحسر وبرزت الشمس ..
فخرج صبرى إلى الشرفة الطويلة ليتجه منها إلى منزل إنجلينا لإعلامها بما جرى ..
وفى طريقه سمع أقداما خفيفة من بعيد ولما اقتربت منه رأى الأستاذ هيرمينى بلحمه ودمه كأنه بعث من لحده .. وحياه هيرمينى فى بشاشة تحية الصباح ..
ولكن صبرى لم يقو على تحمل الصدمة وسقط فى مكانه أمام الأستاذ هيرمينى .. ولما فتح عينيه وجد نفسه فى حجرته وفى فراشه ..
وسمع الأستاذ يقول لإنجلينا :
ـ فى المساء اقطعى له تذكرة إلى استكهولم ليسافر فى نفس القطار الذى سافرت فيه كاترينا وهزت إنجلينا رأسها موافقة وابتسمت ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة " مايو " العدد 59 فى 15/3/1982 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى بعنوان " قصص قصيرة " الناشر المجلس الأعلى للثقافة ط 2000ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




السماء لا تغفل أبدا

السماء لاتغفل أبدا

قصة محمود البدوى


خرجت من دائرة المطار وبيدى حقيبتى .. وكان الجو فى الخارج شديد البرودة كما توقعت ، وبدت السماء شهباء داكنة .. والثلج يتساقط بغزارة .. وأشرت لتاكسى فوقف .. وقلت لسائقه :

ـ أتعرف فندقا هادئا ورخيصا .. فى هذه المدينة ؟
ـ نعم .. وسأذهب بك إلى أجمل فندق هنا .. ولن تدفع أكثر من ثلاثين دولارا فى اليوم .

ـ إقامة كاملة ..؟
ـ بالافطار فقط ..!

ولم أستكثر المبلغ لأنى أعرف غلاء المعيشة فى الدول الأسكندنافية .. ووجدته مقبولا .. ويتحمله جيبى فى الأيام العشرة التى سأقيمها فى المدينة .. وبعد جولة طويلة فى مدينة ساكنة وقف السائق .. أمام بناية خضراء من ثلاثة طوابق .. قريبة من المحيط .. ولم يكن خلفها ولا بجوارها بناء .. حتى حسبتها قائمة وحدها على سيف البحر ..

وأمسك السائق بالحقيبة ودفع الباب الدوار .. ودخلت وراءه مسرعا لأتقى البرد والثلج الساقط ..

وكان هناك رجل متوسط الطول سمين الوجه فى مركز الاستقبال .. استقبلتنا عيناه بنظرة متأنية .. قبل أن نقف أمامه ..

وقال للسائق .. بعد محادثة قصيرة بينهما :
ـ سنعطى للسيد الغرفة 206 فى الدور الثانى مطـلة على البحـر ..

وشكرت السائق ونقدته أجره وانصرف ..

وجاءت سيدة فى رداء أزرق سابغ .. حملت الحقيبة إلى المصعد .. ولم نتحادث حتى حسبتها لاتعرف الإنجليزية وقلــت فى نفسى انها مصيبة أن نتفاهم بالاشارة من أول يوم ..

وكان معها مفتاح الغرفة .. وبعد أن فتحت الباب سلمتنى المفتاح .. ودخلت معى الغرفة وأشعلت الأنوار .. وأزاحت الستر .. ووضعت الحقيبة داخل الدولاب .. ودلتنى على الباب الصغير الداخلى الموصل للحمام .. ثم أحنت رأسها وانصرفـت وأنا أشـكرها ..

وخلعت معطفى وملفحتى .. وكل ما تدثرت به ليقينى من البرد فى الخارج .. وأخذت حماما ساخنا شعرت بعده بالراحة .. وهدوء الأعصاب .. ولكن السكون الذى طالعنى من جنبات الفندق أقلقنى بدلا من أن يريحنى .. فقد كان شديدا وخيل إلىّ أننى الوحيد المقيم فى الفندق .

وغيرت ملابسى ونزلت إلى بهو الاستقبال فى الدور الأرضى .. فلم أجد نزيلا واحدا ، وطالعنى السكون .. وشعرت بالوحشة فليس حولى إلا مقاعد وأرائك خالية ، وستر كثيفة على الأبواب والنوافذ .. رياش وطنافس يسر بها كل نزيل ، ولكنها لم تدخل البهجة إلى قلبى ..

وأزحت ستار النافذة القريبة منى لأستأنس بالمارة فى الطريق .. ولكن الثلج كان يتساقط .. ولا أرى إلا العربات تمضى سريعا .. وبعض العابرين .. يتحركون تحت الثلج .. فرادى .. رجل واحد .. وامرأة وحيدة فى دثار كامل من البرد والثلوج ..

وكان بالقرب منى فى الساحة الواسعة .. رجل على حصان .. ولم أعرف موقعه من التاريخ فما أكثر التماثيل فى هذه المدينة .

والرجل الذى استقبلنى بالحقيبة وأنا داخل .. قد حل محله موظف آخر .. سيدة طويلة بيضاء حمراء الشعر .. قد خلعت عـذارهـا .. واشتغلـت بالكتابة فى دفتر طويل أو بالرد على التليفون ..

وظللت وحيدا فى مكانى أحصى المقاعد من خشب السويد .. وأتمعن فى اللوحات على الحوائط .. وأقلب فى عناوين الصحف التى أمامى حتى أحسست بالجوع .. وكنت أود أن أسأل موظفة الاستقبال عن مطعم .. ولكنى رأيت أن أعرف ذلك بنفسى دون سؤال .. وتلفعت وأصبحت فى الطريق .

ورأيت فى البناية القريبة من الفندق مطعما .. ولكنى تركته ودخلت المدينة أحدق فى اللافتات .. وأصبحت فى الشارع الرئيسى الذى تتجمع فيه كل المتاجر .. وقرأت لافتة تشير إلى مطعم فى الدور العاشر من محل " إرما " ودون أقل تردد ركبت المصعد إلى هناك .

وكان المطعم يشغل السطح كله للبناية .. ووجدته مزدحما ولكنى أخذت مائدة جانبية أعدت لشخص واحد .. وطلبت من الطعام ما راقنى لأن العاملة كانت تجيد الإنجليزية ويسهل معها التفاهم ..

ولما فرغت من الطعام ودفعت الحساب وارتديت معطفى وتحركت إلى الصالة الطويلة .. وجدت إعلانا جذابا عن معرض الف ليلة وليلة الذى جئت من أجله .. ووجدت اسمى وصورتى مع صور الرسامين المتقدمين بعروضهم ولوحاتهم .. ووقفت طويلا أمام هذا الاعلان فقد سرنى وأبهج قلبى .. وحمدت الله الذى ساقنى إلى هذا المتجر الكبير فى اليوم الأول من وصولى .. لأرى هذا وأسر به .

ورجعت إلى الفندق وأنا أشعر بمرارة الوحدة وكآبتها .. ولكن سماعى الموسيقى الكلاسيكية من الراديو الموضوع بجانب فراشى أراح نفسى فنمت نوما عميقا .. واستيقظت فى الساعة التى يقدم فيها الإفطار فى صالة الفندق ..

وفى الساعة التاسعة صباحا رأيت عربة تقف أمام الفندق وينزل منها ثلاث فتيات صبايا وفى عمر واحد بزى واحد .. وقلت فى نفسى لقد بدأ النزلاء يهلون .. كما يهل القمر بعد ظلمة طويلة .. ولكنى أصبت بحسرة عندما عرفت أنهن من العاملات فى شركة التنظيف الخاصة بالفندق .. وأنهن جئن لتنظيف الغرف .. وكل صباح يجئن لهذا العمل .. ومعهن معداتهن الكهربائية .

ورأيت أن أتغدى فى المطعم الذى تناولت فيه طعام العشاء بالأمس .. لأرى صورتى ولوحات ألف ليلة وليلة المعلقة هناك مرة أخرى .

واتخذت طريقى إلى الخارج ، وفيما أنا أسلم المفتاح لموظفة الاستقبال فى الفندق ناولتنى بطاقة .. وكانت دعوة لحضور حفل تكريم أحد الفنانين .

وأدركت أن السيدة صاحبة المطبعة التى ستطبع الف ليلة وليلة باللغات الأجنبية هى التى أرسلت إلىّ البطاقة بعد أن اتصلت بها تليفونيا بالأمس ، وعرفتها بالفندق الذى نزلت فيه .

وكانت الحفلة فى الساعة السادسة مساء .. فهم يبكرون فى موعد الحفلات .. والبطاقة تشير إلى الشارع والمكان .. وقررت أن أركب تاكسيا يوصلنى إليه دون حاجة إلى سؤال ، ولكنى عندما قدمت البطاقة لموظفة الاستقبال قالت لى إن المكان قريب جدا إلى درجة أنى أستطيع مشاهدته من هنا .. لو خلينا البنايات .. فبضع خطوات على رصيف الفندق .. ثم دورة إلى الشمال ومثلها على نفس الطوار توصلنى إلى المنزل 26 .

ووقفت على الرصيف أقرع جرس الباب المغلق .. والمنازل كلها فى الدانمرك مغلقة الأبواب دائما فى النهار والليل .. ليس اتقاء للصوص ولكن هذه هى عادتهم .

وأطلت عينان من الدور الرابع وفتح لى الباب ودخلت وصعدت السلالم إلى الدور الأول ثم الثانى وأنا أتصور أنى أخطأت الطريق .. فليس هذا مكان حفلات تقام .. فلا حركة ولا ضجيج .. ثم وجدت علاقات المعاطف فى زاوية من الباب فخلعت معطفى وكوفيتى وأثناء هذا أقبل فوج فيه سيدة شاهدتنى وحدى .. وتبادلنا النظرات طويلا وشجعنى ذلك على سؤالها :

ـ أتعرفين الإنجليزية .. يا سيدتى ..؟
ـ نعم ..
بنعومة وابتسامة ..
ـ هل هذا مكان تكريم الفنان فيلى VILLY أم أنا أخطأت العنوان ..؟
ـ إنه هو تماما .. وتفضل بالدخول من الباب .

وكانت قد خلعت معطفها ودثارها وبدت متأنقة فياضة الحركة جذابة الملامح وفى عينيها نعاس وصحو يترجران كالزئبق .

وحدثتنى أن اسمى تردد وهم يكتبون عناوين البطاقات وصورتى عندهم فى المطبعة ، وأن السيدة صاحبة المطبعة هى التى أصرت على دعوتى لحفلة التكريم هذه لأعرف الرسامين المشهورين فى هذه البلاد .. وأختلط بهم فى مدة إقامتى القصيرة .. وأنها بعد عرض كل الرسومات التى أرسلت إليها .. أختارت رسمى لأنى الوحيد من بين الرسامين جميعا الذى عرف كيف يبرز روح " شهر زاد " فى اللوحة ويصور كل ما فيها من ذكاء وجمال وفطنة .. وهناك من رسم لوحات جميلة ومطابقة من الشرق العربى .. ولكنهم لم يبلغوا برسوماتهم مستوى فنى .. فرسمى مميز وسرت به السيدة صاحبة المطبعة كثيرا .

وشكرت السيدة مرافقتى لكل هذا الإطراء ..

وتحولنا إلى المائدة الطويلة فى وسط القاعة .. وقد رصت عليها زجاجات النبيذ والبيرة وعصير البرتقال والليـــمون .. وفاكهـة كثيرة .. وأنواع مختلفة من المكسرات ..

وكانت السيدة مرافقتى قد لازمتنى لحظات ثم استأذنت .. ولما وقف من يتكلم عن الفنان المكرم .. عادت إلى جانبى تشرح لى مضمون الكلام .. لأن المتحدث كان يتكلم بلغة البلاد .. وأشاد بالفنان المسافر وعدد مواهبه وجوانب عبقريته .

ثم أقبلنا على الطعام والشراب وشربت كثيرا من النبيذ الأحمر والأبيض وشربت السيدة مثلى حتى لاحظت أثر ذلك فى وهج عينيها وأخذ المدعون فى الانصراف ..

وسألتنى السيدة :
ـ ما الذى شاهدته فى المدينة منذ وصلت ؟
ـ لا شىء له قيمة فى الواقع ..

ـ إذن سنتجول معا .. وأمامى ساعتان أخصصهما لك .. وقد اختارتنى مدام كارين لأكون دليلتك فى الأيام التى ستقضيها هنا .. وأرجو ألا تبتئس لهذا ..!!

ـ أبتئس يا سيدتى .. كيف يكون هذا ؟ إنى أرقص من الفرح .
ـ إذن سنقوم بجولة معا .. والمدينة ساهرة فى الليل وكلها أنوار ..
ـ وقمنا بجولة فى وسط المدينة وكانت المحلات قد أغلقت أبوابها ولكنها ظلت مضاءة تعرض بضاعتها من وراء الزجاج ، وكان سكون الشارع وقلة العابرين يجعلاك تستمتع بالمشاهدة وتشعر بالراحة .

وصلنا إلى مقهى صغير هادىء يقدم الفطير والقهوة والشاى .. واخترنا مائدة فى الداخل .. وشربت القهوة وشربت مثلى .. وحكيت لها باقتضاب السبب الذى جعلنى أسافر .. وكان يمكن أن أكتفى بالبريد بعد أن أرسلت اللوحات .. ولكنى رأيت أن أستغنى عن البريد كلية وأحضر بشخصى لأرى مدينة جميلة من دول الشمال .. يسمونها باريس الصغرى .. ومن رأى باريس الكبرى لابد أن يرى باريس الصغرى .. ثم أحيى هذه السيدة التى فكرت فى طبع قصة عربية على هذه الصورة الجميلة .

وقالت مرافقتى بعد سماعها حكاية سفرى :

ـ إن السيدة كارين Karen معجبة بالشرق العربى منذ صباها .. وكانت بمصر والكثير من بلاد الشرق .. ورجعت فى آخر جولة تحمل نسخة إنجليزية قديمة نادرة من الف ليلة وليلة فى يدها .. وبعدها فكرت فى طبعها فى مطبعتها .. وقالت إن القصة عربية ويجب أن يرسم لوحاتها العرب ، لأنهم أعرف الناس ببيئتهم وأشخاصهم ، وأعلنت فى الصحف وفى المعاهد العليا للفنون وكان من نتيجة الإعلان وجودك هنا .

ـ قد لاتعرفين يا سيدتى أن هذه القصة العربية الفذة والعديمة النظير فى كل ما كتب من قصص والتى بلغت شهرتها كل آفاق الدنيا .. هذه القصة لانعرف ولا نتحقق من مؤلفها حتى الآن !

وهذه القصة هى التى فتحت الآفاق أمام الكثير من كتاب الغرب .. فكتب بوكاشيو الإيطالى الديكاميرون .

وكتبت مرجريت نافار الفرنسية " الهيتاميرون " كما تأثر بها " لامرتين " " جوته " ، وكل من كتب من شعراء وكتاب الغرب عن الشرق .. فهى التى الهبت مشاعرهم وفتحت أمامهم آفاق الخيال .

ـ لقد شوقتنى لقراءتها .. ولكن سأنتظر حتى أقرأ القصة التى فيها لوحاتك ..
ـ شكرا لكل هذا العطف ..

ونظرت فى الساعة ثم قالت ..
ـ سنتقابل غدا بعد الساعة السادسة لنذهب إلى المطبعة .. وسأتلفن لك فى الفندق قبلها .
ـ هل أطمع فى أن نتقابل قبل ذلك لنتغدى معا ؟
ـ إنى أعمل حتى الساعة السادسة مساء .. ويصعب علىّ مقابلتك قبل ذلك ..
ـ إذن نتعشى ..
ـ لابأس من هذا ..

وسررت جدا لموافقتها .. ورافقتها إلى محطة القطار الذى ستركبه إلى بيتها ويقع فى ريف كوبنهاجن .

***

والتقيت بمرافقتى فى المقهى الصغير الذى تحت محل فروك جار froijar ثم ركبنا إلى المطبعة بعد أن أعلمنا السيدة " كارين " .. بقدومنا وسرت بنا ورحبت .. وأرتنا الماكينات وعدد الطباعة الحديثة وعرضت على أجمل مطبوعاتها ..

وقالت وهى تبتسم :
ـ وسيكون الف ليلة وليلة .. أجمل وأروع من كل هذه الكتب ..
ـ بالطبع سيكون هكذا ..
ـ وقد فكرت أخيرا فى طبعة عربية فى لندن .. وستكون لوحاتك فى هذه الطبعة أيضا ..
ـ إن هذا سيجعلنى أشعر بسعادة لاحد لها ..

وجلسنا نشرب الشاى فى مكتبها الصغير الأنيق .. وقالت وهى تشير إلى مجموعة من الصور فوق المكتب .. هذا جدى .. وهذا والدى .. وهذا ابنى " انجر " الذى يعمل معى الآن .. وهم جميعا الذين أسسوا المطبعة .

ـ من دواعى الســرور أن تحتفظى بمكانتهم وصورهم هنا .
وقدمت لى كهدية بعض الروايات والقصص لكتاب من السويد والنرويج والدانمرك .. سلمى لاجرلوف .. أوجست استرندبرج .. هرمان بانج .. ألكسندر كيلاند .. أبسن .. وكلها من طبعتها باللغة الإنجليزية .

ولما تناولت اللفة .. قالت برقة :

ـ لن تحمل شيئا يا سيد " مختار " وتدور به فى المدينة .. سأرسل الكتب إلى الفندق .

وشكرتها وخرجنا أنا ومرافقتى السيدة " كوانا " لنتجول قليلا .. ثم نذهب إلى مطعم للعشاء كما اتفقنا من قبل .. وكانت قد هيأت نفسها لهذه الجولة الليلية فى أجمل ما ترتديه الأنثى فى المساء .. معطف سنجابى أنيق يضم جسمها ويبرز تقاطيعه ووشاح من الصوف دار على عنقها وزادها جمالا وفتنة .

وتعشينا فى المطعم الذى فوق المتجر .. والذى عرفتـه من قبـل ..

وقالت بعذوبة :
ـ لقد عرفت أجمل وأرخص المطاعم بسرعة .. ومن أول يوم ..
ـ كان ذلك مصــــادفة .. محض صدفة .. والبيرة جيدة هنا ..
ـ نعم جيدة .. وستجعلنا نأكل كثيرا ..!

وضحكنا وسألتنى :

ـ كم من الزمن أخذت منك هذه اللوحات ..؟
ـ قد أكون كاذبا إذا قلت انها استغرقت سنة .. الواقع انها استغرقت منى أقل من ذلك .. ورسمت بعد تفرغ ورغبة .. وكنت قد قرأت القصة .. واختلطت بمشاعرى ودمى .. ولذلك كان الرسم سهلا بعد ذلك .. رغم مشاغل الحياة والسعى وراء لقمة العيش .

ـ بالطبع نحن لانستطيع أن نتفرغ كلية .. كما فعل من كان قبلنا .. مشاغل الحياة كثيرة .

ـ انظرى وفكرى بعمق فى الرسام الذى التصق بكنيسة روما سنين وسنين ليرسم على سقفها أروع ما رسم فنان فى الوجود .. وفى الذى وهو يرسم " الموناليزا " جاء لها بفرقة موسيقية تعزف لها أجمل الألحان .. ليظل طابع الهدوء والسكون مرتسمين على وجه الفتاة وهو يرسم .

إننا لانستطيع الآن أن نكون مثلهم .. لم يكن دماغ الفنان مشغولا فى ذلك الوقت بالقنبلة النووية والهيدروجينية .. ودمار الحروب ، كان ذهنه متفرغا لعمله تماما .. كان يرسم فى سكون وتأمل وببسطة فى العيش .

ـ وأظن أنهم جميعا ولدوا فى سنين مقاربة وجاءوا فى عصر واحد .. عصر الأساتذة ..

ـ أجل فميشيل أنجلو على ما أذكر ولد سنة 1475 وهو الذى رسم سقف كنيسة روما .. وخلق الدنيا .. تصورى كيف كان تفكيره .. عندما فكر فى خلق الدنيا .. وفى آدم وحواء عندما أكلا من الشجرة وطردا من الجنة .

ـ منتـهى الهـدوء والسكينة للنفس وهى ممسكة بالفرشاة ..

ـ ثم رافائيل 1483 وروينز 1536 .. جيل العباقرة والأساتذة كما ذكرت .

وفى زماننا ظهر واحد فلتة بيكاسو ولكنه فلتة لن تتكرر . ونحن الآن نعمل وكلنا يسعى لغرض أسمى .. ولإسعاد البشرية .. ولكـن هـل تحس البشرية بعملنا .. وما تلاقيه من صعاب .. أبدا أبدا .

وقالت " جوانا " معقبة ..!

ـ والذى يجنى الثمر من تعب الفنان وكده .. هو غيره وأنت تعرف هذا أكثر منى .

ـ إن نظرة التحول طرأت على الفنون جميعا .. تبعا لصخب الحياة وضجيجها .. موسيقى الجاز .. أفلام رعاة البقر .. قنابل ومتفجرات الحروب ودخانها .. تلوثت العقول .. وانمحى صفاء الذهن .. وبعد التأمل الطويل .. وركن الناس إلى السرعة .. السرعة .. والجرى بكل ما يملكون من طاقة وراء صخب الحياة .

عفوا لقد أثقلت عليك .. من كل هذه الخطب فمعذرة .

ـ أبدا أحب أن أرى على وجهك هذه الحماسة للفنون .
ـ سـأريك شيئـا جميـلا سررت به من قبل وشاهدته مصادفة هنا ..
ـ ما هو ..؟
ـ لوحات من الف ليلة وليلة معلقة فى صالة المتجر .
ـ هذا هو من نشاط مدام " كارين " إنها نشطة جدا فى الإعلان .. ولولا الإعلان ما جئت أنت إلى هنا ..!
ـ وسترين صورتى وبعضا من لوحاتى .. ونحن فى الطريق إلى الصالة .

ورأت السرور على وجهى فابتسمت ونزلنا بالمصعد إلى الطريق وودعتها فى القطار الذاهبة به إلى بيتها .

***

وفى الصباح التالى اتصلت بى تليفونيا فى الفندق .. وقالت برقة :

ـ سنتقابل اليوم فى السادسة والنصف مساء بعد انتهاء عملى .. وسنتعشى معا .. وأنا صاحبة الدعوة !

ـ وأقبل بسرور ..!

ـ سيكون اللقاء فى المقهى الصغير الذى شربنا فيه القهوة بالأمس .

ـ سأكون هناك قبل الموعد بساعة !

وتعشينا أنا و"جوانا " فى مطعم اختارته هى .. وشربنا مع الطعام الكثير من البيرة .. وخرجنا نتجول فى المدينة .. وأصبحنا نخرج من ميدان إلى ميدان .. ومن شارع إلى شارع .. وأنا أقول لها :

ـ ألا تشعرين بالتعب .. ألا نركب سيارة ؟
ـ أبدا أنا أحب أن أريك أجمل ما فى المدينة فى الليل .
وكنا نتجه إلى الميناء .. ووجدنا ملهى طالعنا منه السكون .

فهبطنا إليه .. واتخذنا زاوية ركنية .. وطلبنا النبيذ وجلسنا نشرب .. ونستمتع بالموسيقى والرقص .. ثم أقبل فوج من البحارة وكنا فى ظهر الميناء .. فدخلوا الملهى وأخذوا يشربون ويعربدون .. وكانوا من أجناس مختلفة من الإنجليز ومن بحارة الشمال .. وكنت أود أن نخرج من المكان بمجرد دخولهم ولكنى خشيت أن تتصور أنى خفت منهم .. فبقينا كما كنا ..

وكان همهم كله الرقص والغناء بصوت كريه .

وأقبل بحار تجاه مائدتنا وقال بأدب :

ـ هل تسمح لى السيدة برقصة ..

ورددت أنا على الفور قبل أن أعطيها الفرصة للرد بالقبول أو الرفض ..

ـ السيدة لاتعرف الرقص ..
ـ أتوجد سيدة أوربية لاتعرف الرقص ؟
باستغراب شديد ..

ـ أجل توجد وأرجو أن تنصرف .

وهم بأن يمسك السيدة من ذراعها .. فلكمته بجمع يدى فذهب يترنح وسقط على مائدة مجاورة وشعرت بلكمة على صدغى ولم أر من فعلها .

وتكهرب الموقف وجاء اثنان من عمال الملهى فوقفا بيننا وبين من تحرك من البحارة ، وكان صاحب الملهى قد طلب البوليس فدخل سريعا .

وقالت بسرعة :
ـ لنخرج .
فقلت لها :
ـ سنخرج ولكن ليس فى حركة الهارب أو الجبان .
ـ أعجب لموقفك وأنت الغريب ..!

وبعد دقائق أمسكت بيدها وخرجنا .. فإذا بالمطر يتساقط بغـزارة والريح تعصـف ولم نكن مستعدين بملابسنا للمطر فقلت لها :

ـ إن الفندق على بعد خطوات من هنا .. وهو أحسن مكان يأوينا .. حتى ينقشع المطر .

فلم ترد واتجهنا إلى الفندق مسرعين .

ولم ينفعنا الجلوس فى البهو لأن معاطفنا كانت مبللة .. فصعدنا إلى غرفتى وخلعنا معطفينا ووضعناهما على المناشف الكهربائية المعدة للفوط ليجفا من الماء ..

وكان صدارها الصوفى الذى تحت المعطف قد أصابه البلل أيضا .. ولكنى خجلت أن أقول لها اخلعيه ليجف وإلا سيصيبك البرد والزكام وأكون أنا السبب . وتحسسته بيدها ثم أبقتــه كما كان . ولعلها راودت نفسها على خلعه ثم عدلت .

وقالت وعلى وجهها الأسى :

ـ كيف حدث كل هذا ؟ إنى أتعجب ..؟
ـ إن بلدكم هادىء وجميل .. وأهله بسطاء ومن أطيب الناس وأحسنهم خلقا .. ولكن المتاعب تأتيكم دوما من الغرباء عنكم ..

ـ هذا حق .. والخنزير الذى لكمك لم أره .. وإلا لكنت .. وإلا لكنت ..

ونظرت اليها وهى منفعلة .. وأحببتها فى هذه اللحظة كما لم يحب رجل امرأة فى حياته .. وشعرت بالخجل لكل ما حدث ..

وقلت وأنا أنظر إلى عينيها :
ـ سنشرب .. عندى كونياك .. هنا ..
ـ لقد شربنا كثيرا .. يا مختار ..
ـ ولنشـرب أكـثر .. لنتقى البرد وأنت خارجة .. وانسى ما حـدث .. لقد كنت السبب فى احراجك الليلة ..
ـ كيف تفكر هكذا يا مختار .. وأنت الغريب عن البلد .. ولا تعرف فى أى ملهى كنا وأخذنا نشرب ..

وقالت وقد تضرج وجهها :
ـ هل كانت شهر زاد جميلة إلى هذا الحد الذى رسمته فى اللوحة ؟
ـ أعتقد هذا بعد كل ما قرأته عنها .. وأنها كانت أجمل من كل رسم ..
ـ وذكية ..؟
ـ جدا .. ذكاء مفرط .. انظرى كيف كانت تختار الجمل .. وكيف كانت تتوقف عند جملة بعينها .. بعد أن يبلغ شهريار مداه من التشوق واللهفة إلى سماع باقى القصة .. فى هذه اللحظة كانت تتوقف عن السرد .. وتتركه يتمرغ فى شوقه إلى الليالى التالية ..
ـ لقد رسمتها وأنت تحبها إذن ..؟
ـ أجل وستحبينها أنت أكثر منى .. إذا قرأت القصة ..

وحدث شىء جعلنا نقطع الحديث .. فقد أخذ الدم يتساقط من أنفى .. حدث هذا فجأة .. وحدث فى دفء الغرفة والشراب .. وكان الدم قد حبسه البرد الشديد فى الخارج ولكنه انطلق الآن ..

ودخلت الحمام أغسل الدم .. ودخلت ورائى ..

وقالت بلوعة :
ـ أفكر فى الطبيب بسرعة .. والطبيب هنا لايوجد إلا فى المستشفى ..
ـ لاداعى لطبيب أو مستشـفى .. الدم سينقطـع حالا بالماء البارد .

وأمسكت بالفوطة وبللتها بالماء وأخذت أمسح الدم .. وتناولت الفوطة من يدى .. وحركت كفها بنعومة ..

فقلت لها وأنا شاعر بالراحة .. !
ـ هــذه أول أنامل لأنثى تمسح آلامى وأشعر بها فى حياتى ..
ـ كيف هذا .. وزوجتك ..؟
ـ تزوجت مرة واحدة .. وفشلت .. وعدلت عن الزواج كلية بعد هذه التجربة .. فليس عندى من الأعصاب ما يحتمل ترويض الأنثى .. أنا قلق ولا أثبت على حال ..

ـ أنت فنــان ولوحاتك تعبر عن الصبر الطويل وليس القلق ..
ـ ولكنى كنت قلقا وعصبيا معها فاعذرينى ..
ـ وجهك بملامحه يبدو عليه الهدوء وسكينة النفس .. ولكن من عينيك يطل الحزن .. وأدركت هذا من الصورة التى بعثتها إلينا مع لوحتك .. فما سبب هذا الحزن ..؟

ـ أشعر فى أعماقى بالتعاسة .. والقلق ..
ـ هذا ما يشعر به كل فنان .. فلا تروع نفسك ..
ـ ولكنى مروع .. وأخاف دائما من شىء مجهول لا أعرف متى يأتى ..!!
ـ لاتجعلنى أضحك .. أنت فى رونق شبابك .. وهذه حالة مرضية فأبعدها عن رأسك ..
ـ ولكنها موجودة .. فما حيلتى ..!
ـ أنظر انقطع الدم تماما ..
ـ سأقبل اليد التى مسحت عليه .. وكانت السبب ..

وقبلت يدها وعينيها .. وضممتها إلى صدرى ورحنا فى عناق طويل .. غبنا فيه عن الغرفة .. والفندق والزمان والمكان بل عن الوجود كله .

***

وارتدت ملابسها التى جفت وأكملت زينتها وتهيأت للرواح .. وكانت تود أن تذهب وحدها إلى قطار الضواحى الذى سيحملها إلى بيتها .. ولكنى أصررت على مرافقتها ..

وخرجنا والليل متجل وفى قمة جماله وصحوه .. كما تتجلى العروس .. والمدينة ساكنة وأنوارها تتلألأ .. ودخلنا المحطة وكانت خالية إلا بالقليل من الركاب .. فقد قارب الليل إن ينتصف .. ورأينا رجلا يترنح تحت الرصيف والجو أخذ يثلج .. ونظرت إليه وقالت بمكر ..

ـ هل كانت شهر زاد سكرى الليلة فى الفندق ..؟
ـ أبدا .. ولا كان شهريار سكرانا ..!
ـ وما حدث ..؟!
ـ لابد من حدوثه ..

وارتسم على وجهها حنان لم أر مثله على وجه أنثى ..

وسمعنا صوت القطار داخل المحطة .. فقالت :
ـ أقبل القطار .. وسأريك قطع التذكرة ..

وأخذت ترينى الطريقة فى الآلة الأتوماتيكية المخصصة للتذاكر ..
وقلت لها :
ـ إننى من الغباء بحيث يصعب علىّ التعلم من أول مرة ..
ـ سأكرر الطريقة ..
ـ وتخسرين نقودا ..
ـ لا يهم ..
ـ أو أحسن أن أركب من غير تذكرة .. ويغرمنى الكمسارى .. بدلا من كل هذا التعب ..
ـ لن يغرمك الكمسارى ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنه يعرف أنك فنان .. ومهذب .. ووجهك ضاحك ..!!
وقبلت يدها .. ودخلت القطار .

***

وفى الصباح عرفت الطريق إلى المحطة وركبت نفس القطار .

واستقبلتنى جوانا على المحطة التى فيها بيتها .. وكان اليوم من أيام الأحد وهو عطلة .. فتحركت بحريتها وأرتنى الريف .. ببهجته وجماله وأزهاره وحدائقه ومزارعه الصغيرة .. وفيلاته الخضراء .. من طابقين بسقوفها المحدودبة والثلج يغطيها والبرد يلفها والعصافير تزقزق فى أركانها .. والطرق كلها بيضاء كنتف القطن ..

وبعد جولة طويلة بين الفيلات والثلج يتساقط والشمس غائبة .. شربنا الشاى وأكلنا الفطير فى شرفتها المطلة على المزارع ..

وقالت :
ـ سنقوم بجولة أخرى بعد أن يخف سقوط المطر .. وسأريك كلية الفنون .. وسترى هناك لوحات الشباب من كل أجناس الأرض .. وستمر بها وتعجب بهذه المواهب المتفتحة للحياة ..
ـ يسعدنى هذا ..
ـ وسنتغدى هنا ..
ـ ونتغدى هنا ..!

فابتسمـت واكتسى وجهها بلـون الأرجوان .. لموافقتى السريعة .

وقالت وهى تنهض وعلى وجهها البشر ..

ـ إنك حتى هذه اللحظة .. لم تر زوجى .. فتعال لأقدمك إليه ..

وتحركت وراءها إلى الدور الأول من الفيلا ..

وفى قاعة جميلة زينت بالكتب واللوحات والتماثيل الصغيرة .. قادتنى إلى ركن خفيف الضوء ..

وقالت برقة :
ـ سلم على زوجى ..

وكان الرجل يجلس بكامل هندامه على كرسى متحرك ..
وشعرت بيدى وأنا أحاول مدها إليه كأنها تحمل أطنانا من الحديد المحمى .. وعجزت عن تحريكها ..

وهبت العاصفة بكل ثقلها فجأة ..

وانحنيت وقبلت رأسه ..

وأدركت هى ما حل بى .. فأدارت رأسها وغالبت عبراتها .. وخرجت مسرعة من الغرفة .. وجلست بجوار الرجل وأنا مشلول الذراع صامت أخرس والدنيا تدور بكل ثقلها وأوزارها وتحط على صدرى .
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو المصرية بتاريخ 431985 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى بعنوان " قصص قصيرة " =================================

السبت، 1 مارس 2008

حرية التعبير فى الدنمرك فى قصص محمود البدوى

حرية التعبير فى الدنمرك
فى
قصص محمود البدوى


ذهب محمود البدوى إلى الدنمرك فى عام 1981 فى زيارة قصيرة ، وبعد أن تجول فى مراكزها الثقافية والتعليمية ، عاد إلى مصر .
وفى إحدى قصصة التى كتبها والتى استوحاها من هذه الزيارة " قصة الإنسان " نشرت فى صحيفة مايو المصرية العدد 59 فى 15/3/1982 .
وتدور أحداثها فى أنه نزل ضيفا على احد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة ، واصطحبه هذا ومن معه لزيارة مدرسة الفنون الملحقة بالجامعة ، ويقول :
" تقدم الأستاذ " هرمينى " ودار معهم فى الحجرات يشرح الرسوم والتماثيل التى يصنعها طلبة من كل أجناس الأرض يأتون إلى هذه المدرسة .. ويقيمون فيها داخليا ليوسعوا من مداركهم ، ويطلقوا العنان لمواهبهم المحبوسة .. دراسة حرة فى الاجتماع وعلم النفس والفسفة واللغات والرسم والحفر وصنع التماثيل ..
كان فى الحائط وجوه مرسومة رسمه الطلبة أشبه بوجوه نيرون .. جانكيز خان .. هتلر .. موسلينى ..
وأشار الأستاذ " هيرمينى " إلى هذه الرسوم وقال وهو يشرح ويعلق :
ـ لماذا هؤلاء فقط .. ولماذا دار هؤلاء فقط فى رؤوس الطلبة .. وأخرجوهم بهذه الصورة .. ولماذا لا يكون معهم كل طغاة البشرية ..؟ كل من حاول من عصر نيرون تدمير البشرية وتلطيخ وجهها بالطين ، الذين ألقوا القنبلة الذرية ، والقنابل السامة على الشعوب الآمنة ، والذين عذبوا الأبرياء فى السجون ، وهتكوا أعراض النساء ، والذين سحقوا بجيوشهم ودباباتهم الأطفال الرضع .. والذين سمموا دم البشرية بحيلهم وخداعهم ، وعلقوا رجالها الأفذاذ فى المشانق ليخلوا لهم الجو لتدمير الحياة .. لماذا اختار الطلبة هؤلاء فقط ..؟ لا أدرى ..
واستدار الأستاذ " هيرمينى " وسأل صبرى : ـ هل أعجبتك الرسوم والتماثيل ..؟
ـ إنها تعبر عن مشاعر صادقة .. استفادت من الدراسة وأفادت .. مواهب انطلقت من عقالها ..
وظهر السرور على وجه الأستاذ هيرمينى وقال :
ـ شر ما يصيب الإنسان هو ألا يجد متنفسا لموهبته .. وهنا جعلنا هذه المدرسة للتنفيس .. إننا لا نسجن عاطفة ، كما لا نحب أن نسجن إنسانا ..
إن البشرية تعذبت من الطغاة الذين دمروا نفس الإنسان .. بأى صورة من الصور ، إن هذا الشاب الذى لطخ هذا الوجه الذى تراه وشوهه يبحث فى نفسه عن آلة يدمر بها كل من يقف فى طريقه .. وقد وجد هذه الآلة فى رسم هذه الصورة البشعة .. واستراح بعدها ..
ودار بهم الأستاذ هيرمينى فى كل القاعات ثم قال :
ـ والآن سنذهب إلى المكتبة ونستريح ونشرب القهوة .. وفى المكتبة رأى " صبرى " معظم أدباء العالم مرسومة بيد الطلبة .. جويس .. همنجواى .. دكنز .. اسكار وايلد .. دستوفسكى .. تولستوى .. جوته .. تشيكوف .. كريستيان أندرسون .. أوجست استرندبرج .. سلمى لاجرولوف ..
وقال هيرمينى :
ـ هذا همنجواى فارس الكتاب فى الحلبة وأبلغ من كتب بالإنجليزية .. يسقط صريع الوساوس .. لأنه وجد أن حياته عبث فى عبث .. ورسالته لم تحقق شيئا ابتغاه وسعى إليه بأظافره .. لقد اشترك فى الحروب ولمس أوضار العالم بأصابعه العارية .. ولكنه لم يوقف حربا ، ولم يستطع أن يدافع عن مظلوم .. إن العالم يحركه رجال السياسة حسب أطماعهم .. ولهذا انتهى بالانتحار كما رسمه الطلبة ..
ودكنز الذى صور حوارى لندن وأزقتها وأعاد بكتاباته إليها النور والنظافة .. وصور بؤس أطفال الملاجىء .. انظر إليه .. لقد رسموه فى حانة قذرة يهذى .. وقد سقط القلم من يده ..
وهذا اسكار وايلد المتألق فى هندامه وكلامه يخطب فى أمريكا الفن للفن .. ويخرج من السجن شريدا طريدا .. ليعيش فى باريس جائعا معذبا كما تراه الآن وكما رسمه الطلبة ..
واستدار الأستاذ إلى صبرى وسأله :
ـ هل قرأت يوليسيس .. لجويس ..؟
ـ منذ سنوات ولكنها لا تنسى ..
ـ يقول " فورستر " وهو استاذى الكبير عن هذه القصة : ـ لقد لطخ جويس فى هذه الرواية وجه العالم بالوحل .. رمى فى وجه العالم الأوحال .. ومسز " بلوم " المرأة الهلوك المتعطشة لكل رجل ولا ترد يد طالب ، هى فى نظره امرأة العصر ، وكذلك كان يلوم نفسه الشهوانى المتقلب ..
وغرضه من هذا هو تشويه وجه البشرية مادامت لم تسع إلى الخلاص من أوضارها ..
سقطت حضارتها ، وسقطت كل المظاهر البراقة فيها ، وكل مظاهر التقدم .. مادامت لا تستطيع أن تدافع عن إنسان مظلوم ، ولا تقف فى وجه مدمر طاغية .. حرب ، حرب لسبب ولغير سبب .. دمار وجوع ..
وأضاء وجه الأستاذ " هرمينى " وجه الإنسان وهو يشير إلى تولستوى وديستويفسكى المرسومين على الحائط ..
ـ انظر إلى هذين ، لا يوجد من كتاب العالم من لاقى مصيرهما المحزن .. إن ما سعى إليه هؤلاء وتسعى إليه البشرية هو خير الإنسان .. ويجب أن نأخذ عظة من الذين دمروا الحياة .. ولا نعاود تدميرها .
إن الرجل الذى يذهب من السويد إلى أقصى الأرض ليعالج البشرية من مرض الجذام .. هو الذى نصنع له التمثال .. وليس الذى يخترع القنبلة الذرية .. وقنبلة النيترون .. ويخترع التدمير ويقود الجيوش إلى الحروب ..
وإننا لا نصفق للذى يضع قدمه على أرض القمر .. ولكنا نصفق للذى يغسل عن البشرية عارها .. من الجوع والبطالة وكل صنوف الدعارة التى يسببها الجوع .. إن حياة البشرية وسعادتها مرهونة بخيار رجالها ..
إن هذا الكلب سيقتله البرد لو ترك هكذا فى الخارج كما تراه دون مأوى ودون دفء ، وكذلك المريض فى هذه الفيلات التى نشاهدها ، وكل جائع فى الأرض يجب أن نوجد له القوت أولا قبل التباهى بركوب السحاب والوصول إلى الكواكب ووضع الأقدام والسير بها على سطح القمر ..
إن هذا كله مظاهرة تهريجية إلى عالم الكواكب ، وننسى الجوع والبطالة والتشرد فى كل مكان ، ونسعى إلى التفاخر ، ولا شىء غير التفاخر ، والله الذى خلق السموات والأرض وما بينهما يعرف حماقة هؤلاء ..
وأنت يا أستاذ صبرى ، كما علمت من كاترينا .. أستاذ لغة وتدرس للطلاب ، وقد سرنا هذا للغاية ، ونحن نقوم بنفس عملك ، ولكنا وقبل تعليمهم اللغة ، نعلمهم كيف يعيشون فى الحياة ، ويسعون إلى الخير لكل إنسان مهما تكن جنسيته وتكن صفاته .. ولنسأل أنفسنا بعد كل ساعة تمضى من عمرنا ، ما الذى فعلناه للبشرية لنخفف من آلامها .."

كوبنهاجن فى عيون محمود البدوى


كوبنهاجن


فى عيون محمود البدوى


بقلم : على عبد اللطيف
و ليلى محمود البدوى


سبحانك ربى وزعت الأرزاق .. ووزعت الخلق
فى شمال وجنـوب وشرق وغرب وأبقيت العقل
البشرى هو مصـباح الحياة ونورها وقلبها النابض


*****


خرج البدوى من المطار متأخرا عن سائر الركاب .. لسوء فهم حدث بينه وبين من كان ينتظره .. فقد انتظر خارج المطار وكان يتصور أنه ينتظره بالداخل .. وهو هابط من الطائرة .. ولما خرج جميع الركاب ويئس من وجوده معهم ترك له بطاقة فى الاستعلامات .. ومشى ..!


واستقبل البدوى الباب الخارجى والثلج يتساقط والسماء شهباء والبرودة شديدة .. ووقف فى غير المكان المخصص للتاكسيات .. ومر أمامه تاكسى ثم تاكسى وهكذا .. وهو يشير اليها وهى لاتقف وتعجب .. وأخذته الحيرة ..

ولكن أنقذه من تعجبه وحيرته .. شخص أقبل نحوه مبتسما وسأله بالإنجليـزية :
ـ السيد .. يريد .. سيارة ..؟
ـ نعم ..
ـ تفضل معى .. إن موقف السيارات هناك ..


وحمل حقائبه على الفور .. وتقدم أمامه .. إلى موقف السيارات .. وفى أول الصف كانت سيارته .. وأخبره باسم الفندق ..


وتحرك فى هوادة .. وكانت الشوارع خالية .. والثلج مازال يتساقط بغزارة .. والمنازل الدكناء تبدو صامتة وكأنها خالية من السكان .. وخيل إليه أنها تنظر فى تعجب إلى السائح الذى هبط هذه المدينة وسط البرد والثلوج ..


وكانت الإضاءة القوية تكشف سحر المدينة .. ونظافة شوارعها .. وتألق النظام الهندسى فى مبانيها .. فهى فى لون واحد وطوابق خمسة لاتزيد عليها إلا فيما ندر من بروج الشركات الكبيرة .. كناطحة السحاب لشركة " ساس " وهى تطل بمظهرها الحديث بيضاء لاشية فيها .


ويقول محمود البدوى بعد عودته من الرحلة التى قام بها فى بداية عام 1981 "

" كوبنهاجن هى مدينة الشعر والجمال والأمان "

ويستطرد قائلا :


إن مدينة " طوكيو " تزهو على العالم أجمع بحى " جنـزا " لجماله وتألقه وروعة تنسيقه والشاعرية الأخاذة فى كل مكان .. ولكن " كوبنهاجن " لعين الخبير البصير تزهو الآن على حى " جنـزا " وعلى كل ما فى العالم من أحياء جميلة .


إنك تدخل مدينة تتألق فى النهار والليل بالنظام والجمال والسكون .. تسير فى شوارعها رغم الثلج المتساقط فتحس بأنفاس الحياة الدافئة فى كل شبر وموقع .


الحياة تجرى فى الشوارع بالعربات والناس .. ولا تسمع حديثا لمتحدث ولا صوت نفير لسيارة .. ولا تسمع هذا قط أبدا .


وعلامات المرور تنفتح وتنغلق أتوماتيكيا .. ولاترى عسكريا واحدا للمرور يقف فى ناصية أو ميدان أو فى مفترق للطرق .


ولا مخالفة تقع من عربة أو إنسان فى أى مكان فى نهار أو ليل .. انضباط فطرى يجل عن الوصف ولا يوجد نظيره فى أى مكان فى الدنيا .


وقفت عشر دقائق تحت الثلج أرقب الناس والعربات .. كأنى جندى للمرور هبط عليهم من المريخ ! فلم أر مخالفة واحدة . . وخالفت أنا متعمدا لأرى موقف العربات منى .. فوجدتها تحترم جهلى وتقف حتى أعبر !


ورأيت عجوزا فى الليل البارد تقف دقيقة كاملة إلى أن تفتح أمامها الإشارة .. ولا رقيب عليها إن عبرت قبل الإضاءة الخضراء ولا حسيب . ولكنه التعود واحترام الذات وانطباع السلوك .. ولم تكن هناك عربات قط لاقادمة ولاراجعة .. ولكنها وقفت بحس غريزى وانضباط فى أعماق النفس تكون على مدى عمرها كله .. فكيف تخالف ؟ !


إن الأمم التى تفقد عنصر النظام تفقد بالتالى أهم مقومات حياتها .. إنها تموت فى بطء وتشيخ قبل الأوان .


ولم تكن هذه العجوز التى تسير فى الليل وحدها هى الوحيدة التى تتحرك فى الليل على هذه الصورة .. فهناك غيرها من الشابات يعبرن الطرقات تحت الأنوار فى نشاط وقوة .. وهناك فتاة جميلة تسير وحدها فى طرق معزولة .. فلا تسمع من شاب كلمة نابية توجه اليها .. أو لفظة حلوة .. أو مطاردة من صفيق أو مخنث أو شارد عقل .

إن الدول الأسكندنافية بلغت فى هذه الناحية أقصى درجات الرقى فى سلوكها الاجتماعى .

إن كلمات الغزل والمطاردة تسمعها وتراها فى البلاد الأوربية الواقعة فى حوض البحر الأبيض ولكنها تنعدم تماما فى الشمال .

وسكان كوبنهاجن يتميزون بالطيبة وحسن الخلق وأقصى درجات الذوق فى المعاملة .
ففى المطاعم والفنادق والعربات والقطارات .. لاتجد إلا الابتسامة المشرقة .. وعراقة الخلق ودماثة الطبع .

والمرأة الدانمركية تعمل فى كل مكان .. فى المتجر وفى عربات الأجرة الصغيرة والكبيرة وفى البنوك والمتاجر وفى الشركات ودور الحكومة وفى الجامعات والمدارس والمطاعم والفنادق وتزاول كل الأعمال وتتميـز بالنشاط والحيوية وطول القامة والجمال العديم النظير .


كانت المرأة الرومانية فى نظرى من قبل أجمل نساء العالم .. فلما رأيت الدانمركية تغير رأيى .. وقلت تبارك الله فى خلقه وفى معجزاته .. وفهمت معنى قوله تعالى

" لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم " .
======================================