الاثنين، 10 مارس 2008

الإنسان


قصة محمود البدوى


ـ أتتحدثين بالإنجليزية ..؟
ـ أجل ..!
ـ وذاهبة إلى كوبنهاجن ..؟
ـ لا .. إلى استوكهلم ..

وصمت " صبرى " وشعر بخيبة الأمل .. إذ كان يتمنى أن تكون من كوبنهاجن ليعرف منها بعض ما يجهله عن هذه المدينة الذاهب هو إليها لأول مرة .. وبعد صمته الذى طال سمعها تقول فجأة :

ـ انظر إلى الثلج هل تراه من نافذتك ..؟
ـ نعم .. أراه ..
ـ إنه يغطى قمم الجبال .. إننا نطير الآن فوق هذه المنطقة ..

واستدارت برأسها وأرته الموقع على الخريطة ..

وابتسم " صبرى " من عادة الأجانب الذين يتحركون فى كل مكان وبيدهم الخرائط .. ويحددون الموقع .. ويسيرون على هدى ما بأيديهم دون أن يسألوا أحدا أو يستعينوا بشخص .. الاعتماد على النفس هو أبرز صفاتهم ..

وعجب لسرورها وانبهارها من منظر الثلوج فوق الجبال .. فهو لم يكن أكثر من بياض .. ولم ينقطع المنظر ويتشكل بأجسام بشرية وحيوانية .. ولم تتخلله الألوان التى تأخذ بلب المشاهد .. كما رأى من قبل وهو يطير فوق جبال القوقاز .. ولكنه جاملها وارتضى به كمنظر يسره كما سرها ..

وكانت جالسة فى الصف الذى أمامه .. والمقعد الذى بجوارها خاليا .. لأنهما فى المكان المخصص لغير المدخنين من ركاب الطائرة ـ وهم قلة ـ معظم المقاعد خالية .. إلا من نفر قليل بين السيدات ووجد صبرى نفسه وحيدا بينهن .. واستراح أولا لأنه يكره رائحة الدخان بدرجة فظيعة .. ولكنه ما لبث أن شعر بوحدته بينهن ..

كما وجد أن الحديث معهن لا يليق .. ومعظمهن يسافر مع أزواجهن فى جماعات ..

ولما نهضت إلى مكان الصحف .. ثم عادت تحمل جريدة اليوم .. رآها فى جولتها لا تحادث شخصا ممن كان يتصور أنهم معها .. وبدأ بينهما الحديث ثم انقطع .. ولما طوت الصحيفة سألها ليتأكد :

ـ هل أنت مع هذه الجماعة ..؟
ـ لا .. إننى وحيدة ..
ـ وكنت فى سياحة بمصر ..
ـ لا .. أنا قادمة من جنوب أفريقيا .. زوجى فى السفارة هناك .. وقضيت معه شهرا .. أعتدت هذا كل عام ..
ـ وشاهدت القاهرة ..؟
ـ بالطبع مرتين فى الذهاب والإياب ..
ـ وسرتك ..؟
ـ جدا ..

وظن أنها تجامل .. فما الذى يسر فى القاهرة فى هذه الأيام .. مع الزحام الشديد ورداءة المواصلات .. وسوء خلق سائقى التاكسى .. وقلة الفنادق ..؟

ولكن لشعوره الوطنى لم يعقب على كلامها .. بل أخذ يمتدح لها القاهرة ويشيد بمعالمها الجميلة .. ويتحدث عن القلعة والأهرامات .. والآثار الفرعونية ومنظر النيل فى الليل عندما تسقط عليه القناديل أو يسقط ضوء القمر .. ويموج بالتبر المذاب ..

وأخذته الشفقة عليها وهى تحادثه .. لأنها كانت تلوى عنقها وتستدير برأسها كلما وجهت إليه سؤالا أو سمعت رأيه فى جواب أو سؤال .. وكان يود أن يقول لها :
ـ هل تسمحين لى بالجلوس بجانبك ..؟
ولكنه لم ير أن يقيد حريتها .. ورأى أن من الخير لهما أن يكونا هكذا .. وكان فى استدارة عنقها ما يشوقه .. لأنه يرى لون عينيها من غير أن تسدد إليه سهام لحظها .. كما يرى جمال وجهها فى غير مواجهة صريحة ..

ولما وقفت وهى ذاهبة لتأتى بالصحيفة رآها فى بنطلون أزرق وصدار طويل غامق .. وكانت قد خلعت الجاكتة الصوفية بمجرد جلوسها على المقعد ..

ورأى بجوارها على المقعد كتابين إنجليزيين .. واستعار واحدا منهما فقلبه فى يده قليلا ثم رده إليها شاكرا ..

وسألته :
ـ ألا تحب أن تقرأ ..؟
ـ حسبته رواية .. والأحسن من كل قراءة أن أشاهد الوجوه الجديدة ..
ـ بالطبع هذا أحسن .. أذاهب إلى استوكهلم ..؟
ـ إلى كوبنهاجن ..
ـ لأول مرة ..؟
ـ لأول مرة ..

وأشفقت على شيخوخته وعلى سفره وحده .. فسألته :
ـ ألك .. أقرباء هناك ..؟
ـ لا ..!
ـ وينتظرك شخص ..؟
ـ أجل هناك برقية ..
وكان واثقا من ذلك فقالها بقلب مطمئن ..
ـ أما أنا فذاهبة إلى استوكهلم كما حدثتك .. اشتقت لأولادى ..
ـ أعندك أولاد ..؟
ـ أجل .. ولدان وبنت ..
ـ ولكنك صغيرة على الثلاثة .. وصغيرة حتى على الواحد ..

ورأى وجهها يزداد حمرة وعينيها تتكسران ولا يدرى أكان ذلك خجلا .. أم سرورا لكلماته ..

واستدارت وقالت زامة شفتيها :
ـ هذا ما حدث .. وكما قلت .. أسافر إلى زوجى كل عام .. وأقضى هناك شهرا .. أما الأولاد ففى استوكهلم فى بيتهم وفى مكانهم من الدراسة ..

ـ أتذهبين إلى زوجك فى العام المقبل ..
ـ لا أدرى كل وقت بظروفه ..
ـ إذا عزمت .. فيسرنى أن أكون دليلك فى القاهرة فى الذهاب والعودة ..
وكتب لها اسمه وعنوانه ..
وسرها ذلك للغاية وكتب بأناقة وخط جميل اسمها وعنوانها فى استوكهلم ..

وقدم طعام الغداء .. وكان الركاب الأجانب يشربون البيرة والنبيذ .. إلا " كاترينا " .. فإنها اكتفت مثله بالقهوة وعصير البرتقال ..

ورآها بعد الطعام تسترخى على المقعد .. وتغلق عينيها .. وتود أن تنام .. وتركها صبرى على حالها دون سؤال .. وحاول هو أن يسترخى مثلها .. ولكنه لم يستطع .. كان هناك ما يخفيه ويسيطر على مشاعره .. حتى قبل أن يركب الطائرة .. ويستعد للسفر وهو ما قرأه فى الصحف عن البرد والعواصف فى أوربا .. فى هذا الوقت من السنة .. ثلوج وعواصف ورياح .. فما الذى يفعله هو فى شيخوخته ليقاوم هذا كله ..؟ لا شىء على التحديد .. ولكن حبه للسفر جعله ينسى هذا .. ويتركه وراء ظهره .. فإن ما سيقع سيقع ..

ولما وقف المضيف فى الطائرة عندما أخذت فى الإقلاع يشرح كيف يلبس القميص الواقى من الغرق .. لو قدر وسقطت الطائرة فى المحيط ..

ارتسمت بسمة على محياه .. بسمة سخرية مرة .. وكذلك والمضيفة تشرح كيف يلبس القناع عندما ينقص الأكسيجين .. كانت السخرية هنا أشد ..

هل بعد السقوط فى المحيط .. وتخلخل الهواء حاجة للقميص والقناع .. وهل سيكون هناك نظام وترتيب .. ويد تتحرك فى هدوء لتضع هذا وذاك .. إنها القارعة وما أدراك ما القارعة ..!!

وكانت الطائرة من أكبر ما ركب من طائرات فى حياته .. ولكنها اهتزت مرتين .. ودخلت فى منخفض جوى شديد ..

وصحت " كاترينا " وحولت وجهها إليه .. فقال :
ـ اقتربنا ..
ـ حقا ..
ونظرت إلى ساعتها .. وقالت برقة :
ـ لا .. بقى ساعة ..
ـ أأطلب لك قهوة ..؟
ـ لا .. شكرا شربت منها الكفاية ..
ـ أما أنا فسأشربها .. لأظل متنبها وأنا فى المدينة الجديدة ..

وحدقت فى وجهه .. وأطالت التحديق .. كأنها تستغرب سفره وحده فى هذه السن العالية .. وسألته :
ـ ألا تعرف أحدا فى كوبنهاجن .. خلاف الشخص الذى ينتظرك ..؟
ـ أبدا .. لا أعرف أحدا .. والشخص الذى ينتظرنى لا أعرفه ..؟
ـ لا عليك .. لا عليك ..
قالتها لتطمئنه .. مع أن القلق كان يطل من عينيها الزرقاوين ..

***

وشعرا بأنهما يقتربان من كوبنهاجن .. ومن مهبط الطائرات .. فأخرج أقراصا من الحلوى .. وقدم لها العلبة ..

فقالت بنعومة :
ـ شكرا .. سآخذ قرصا .. وإن كنت لا أحب أن تحرك المرأة فكيها هكذا طويلا ..
وابتسم لرقة مشاعرها ..

ولمست الطائرة بعجلاتها الأرض .. وهم الركاب إلى لفاتهم فى الدواليب التى فوق رؤوسهم .. وأخرجت هى لفات صغيرة ..
وقال لها :
ـ ليس معى سوى حقيبة صغيرة .. وسأعاونك فى الحمل ..
ـ ليس معى ما يستحق المساعدة وسترى .. ووضعت كل ما معها فى كيس واحد بلباقة وكياسة ..
وخرجا من الطائرة ..

وقالت كاترينا باسمة :
ـ سر بجانبى .. وسأدلك على الطريق .. وسنجنتاز ثمانى عشرة قاعة .. وراقب هذه الكتابة .. إنها تشير إلى الخروج ..

وقال لنفسه :
ـ ثمانى عشرة قاعة .. ياللهول .. مالى والسفر وحدى .. وإذا لم تكن هذه الجميلة معى .. فكيف أتحرك ..!

ونظر إلى عينيها .. وقال كأنه يودعها بأحلى ما فى نفسه من كلمات :
ـ وهل كل النساء فى السويد فى مثل جمالك ورقتك ..
ـ وهل ..
وقالت كلمات تدل على سرعة خاطر وذكاء مفرط ..

ثم سألته :
ـ كم عمرك ..؟
ـ سبعون سنة ..
ـ فى سن والدى .. والدى له نفس العمر .. والآن ..
ـ والآن ..!
ـ والآن .. فى هذه الصالة سنفترق .. إننى مجرد عابرة .. ولا أستطيع أن أمضى معك خطوة أخرى .. سأنضم إلى هؤلاء العابرين الذين كانوا معى فى الطائرة وفى طريقهم إلى استوكهلم .. أما أنت فادخل من هذا الباب .. وسيقودك إلى الخارج ..

ووقفا .. وأمسك بيدها .. وشعر بها تضغط .. تعبيرا عن الشكر ..
وظل سادرا فى موقفه .. ثم اتجه إلى حيث وجهته ..

ووقف أمام بوليس الجوازات .. فإذا به أمام ضابط مرح بلحية كثة تغطى عارضيه .. لا يكف لحظة عن الضحك والنكات بكل ما يعرفه من لغات ..

وأزاح الضابط الضاحك عن نفسه ما كان يقلقه .. فخرج إلى القاعة الفسيحة ينتظر حقيبته .. وجاءت الحقائب .. فأخذ حقيبته وعاد إلى مقعده ..

وتطلع إلى الوجوه الباسمة التى حوله .. والتى تضحك فى مرح .. تطلع إلى هذه الوجوه فلم ير وجها واحدا عابسا .. يحمل هما .. أو يعانى من مشكلة .. ولا سحنة منقبضة ولا منكسرة .. ولا نفسا مرهقة .. وجوه ضاحكة مستبشرة تفيض بالحيوية والنشاط ..

وكان فى قاعة مكيفة فلم يشعر بالبرد فى الخارج .. ولكنه شعر به عندما وقف يتطلع إلى المنتظرين فى الخارج .. وكانوا يلوحون لمن فى الداخل بأيديهم .. ووقف وهو يلوح بيده .. ليدل بنفسه على من ينتظره .. ولكنه لم يشاهد أحدا يتبين منه هذه الصفة .. فرجع إلى مكانه .. ثم عاد يتطلع إلى الباب مرة أخرى ويشير بيده ..

وكانت التليفونات أمامه فى أكثر من موقع .. ولكن مع من يتكلم فى يوم السبت .. وبعد الظهر .. ولا أحد فى المكاتب فى هذه الساعة من النهار ..

وعاد إليه القلق .. هل يخرج وحده إلى مدينة لا يعرف فيها أحدا ..
وأول شىء سيذهب إليه هو الفندق .. والفندق بمائة جنيه فى الليلة الواحدة وأكثر من مائة .. فماذا يبقى له من النقود .. بعد ليلتين .. لن يجد حتى أجرة العودة بالطائرة .. كل الوجوه التى حوله ضاحكة وهو وحده المنقبض القلق ..

وأضيئت الأنوار .. ووقف قرب الباب الخارجى يلوح بيده لآخر مرة .. فلم يرد على حركة يده أحد ..
وشعر بالثقل والانقباض .. ولكنه قرر أن يخرج .. وأن يركب تاكسيا .. وسائق التاكسى سيدله على أرخص فندق .. بعيدا عن فنادق السياح ..

وحمل حقيبته وخرج من الباب .. وبصر بها واقفة تنتظره .. رأى صاحبته ورفيقته فى الطائرة .. كاترينا ..

وقالت له بصوت فيه بعض الأسى لحاله :
ـ لم تطاوعنى نفسى على أن أتركك وحدك .. وقد شاهدت من بعيد ما أنت فيه من حيرة .. وأجلت السفر الليلة ..
وهم أن يقبل يدها ولكنه تماسك ..
وركبا سيارة إلى فندق عينته للسائق ..

وكانت الأنوار تسطع والبرودة شديدة .. والسماء على أشد ما تكون من زرقة وصفاء .. والثلوج مكومة على جانبى الطريق والمدينة فى حلة سنجابية ببيوتها وطرقها .. وتكاد من فرط سكونها أن تكون خالية من أنفاس الحياة ..

وأمام فندق صغير هادىء .. وقفت السيارة وأخرج السائق اللفائف والحقائب من السيارة .. وأدخلها فى قاعة الفندق ..

وأمام موظف الاستقبال .. قالت هى قبل أن ينطق هو :
ـ غرفة .. بسرير .. واحد ..!
ودونت اسمها واسمه ووقف هو صامتا .. وصعدا إلى الغرفة ..

ولاحظ الغرفة سريعا بعينيه .. ووجدها أنيقة فى كل أثاثها وصغيرة والحمام بداخلها .. وجاءت فتاة الفندق تدفع الحقائب .. ووضع صبرى يده فى جيبه ليخرج كرونات ..
فقالت له كاترينا بعينها .. لا .. فرد يده ..

وجلسا قليلا بعد أن خرجت الفتاة .. يتطلعان إلى ما حولهما .. وينظران من النافذة .. ويرقبان وضع الأشياء ..

ثم قال لها صبرى :
ـ سأنتظرك تحت ..
وكان يود أن يترك لها حرية تغيير ملابسها على انفراد .. فنظرت إلى الساعة وقالت :
ـ كما تحب .. وسأنزل بعد دقائق .. وهبط بالمصعد إلى الدور الأول .. وجلس ينتظرها فى قاعة الانتظار .. ولاحظ الستائر مسدلة على النوافذ .. وكان يود أن ينتظرها ويعرف حالة الجو فى الخارج ..

وهبطت كاترينا ترتدى معطفا ثقيلا وحذاء عاليا غطى جوربها وساقيها .. وقبعة غطت كل شعرها ..

وشربا القهوة .. وقالت :
ـ سنخرج وأريك المدينة فى الليل ..
وقال وهو يدير عينه فيما حوله :
ـ يبدو أن ليس فى هذا الفندق سوانا ..
ـ إنه مخصص لك وحدك ..

وضحكت واستطردت
ـ هذا الفندق من أجمل وأرخص فنادق المدينة وهو فى الشتاء دائما هكذا .. لأنه يعد قريب من البحر .. البحر وراءنا على بعد خطوة وسنخرج إليه بعد جولة قصيرة فى المدينة ..
ـ نطلب تاكسيا ..
ـ لا .. الأحسن أن نتحرك بأقدامنا ..

كان يعرف أنها تراعى حالته المالية ولم يكن سائحا بغرضه .. ولكنه جاء ضيفا وليس فى جيبه إلا القليل من المال وعلى هذا الوجه سافر ..

ونهضت كاترينا وبعد أن لاحظته وراعت أنه تدثر تماما وغطى رأسه .. خرجا من الباب .. إلى البرد والليل ..

وكانت الطرق خالية تقريبا من المارة .. وقد جرفت الثلوج وتلألأت الأنوار فى أعالى الطريق وفى الحوانيت المغلقة .. وشعر صبرى رغم البرد ولفح الهواء بالراحة .. ولم يحاول أن يمسك بذراعها حتى بعد أن سارا أكثر من مائة خطوة وهو مبهور بكل ما حوله من جمال ..

وعند مفترق الطرق أمسكت هى بذراعه .. ولاحظ إشارة المرور .. من غير جنود فى كل مكان ولاحظ الهدوء والأمان المطلق .. ولاحظ الجمال فى كل ما حوله .. والأناقة التامة والحيوية والنشاط عندما دخل فى قلب المدينة .. جرى الدم فى عروقه مثلهم وكان فى مثل نشاطهم ..

وقالت له برقة :
ـ لماذا تجرى ..؟
ـ لقد عدونى بسرعتهم ..
فضحكت ..

وأخذا يستعرضان واجهات الحوانيت وفكر فى أن يشترى لها هدية ..أجمل هدية قبل أن تتركه فى الغد .. وكان فى رأسها نفس التفكير .. هدية صغيرة له من قبل أن تفارقه .. كانت تقف طويلا أمام ربطات العنق ..

وكان يقف طويلا أمام الإيشارب .. والقبعات وكل واحد منهما يعرف ما يدور فى رأس الآخر ..

وكانت تقول له بعينيها :
ـ عندما تعود إلى القاهرة .. أرسل كل ما تبغيه وكل ما تحبه من هدايا ويكفى منك بطاقة بريد .. أما هنا .. فلا .. لاشىء رخيص .. الأسعار عالية فى كل دول الشمال ..

ووجدا مطعما فقالت له :
ـ سنتعشى هنا بعد هذه الجولة .. لأن الفندق ليس فيه عشاء .. الإفطار فقط ..
ـ كما تحبين .. ولا رأى لى .. ما دمت دليلى ..
ـ ربما تفضل الذهاب إلى ملهى ليلى .. وتشرب البيرة والنبيذ وترى كوبنهاجن ..

وحدق فى عينيها وهما تترقرقان فى صفاء ..

وقال :
ـ معك أشعر بأنى أحتوى كل ما فى الدنيا من جمال ..
وفاض وجهها بالسرور ..
ـ عندما تشعر بالجوع حدثنى ..
واقتربا من مطعم آخر .. فقالت على الفور ..
ـ سندخل هنا ..
ودخلا ..

واختارت هى مائدة بالداخل .. وجاءت العاملة فحادثتها كاترينا ووضعت العاملة أمامها أدوات المائدة وزجاجتين من البيرة ..

ونهضت كاترينا وقالت له :
ـ هل تأتى معى لتختار عشاءك .. أم أختاره لك ..
ـ أرضى باختيارك ..
واختارت له فى طبقه السمك .. والكبدة .. واللحم .. وسلطات كثيرة .. ثم رجعت تختار لنفسها ..
وجعلهما البرد يأكلان كثيرا .. وكانت تود أن تقاسمه فى ثمن الطعام ولكنه رفض ولاحظت أنه أعطى العاملة مبلغا تعتبره كبيرا ..

فسألته وهما يخرجان :
ـ هل أعطيتها كل هذا لأنها جميلة ..؟
ـ يا سيدتى .. إنهن جميعا جميلات .. ولكن لا أجد بينهن .. ولا فى الدنيا بأسرها فى مثل جمالك .. وأكرمتها لأنها كانت لطيفة معك ..

وفى طريق العودة إلى الفندق أمسكت بذراعه ولما صعدا إلى الغرفة .. بدأ يشعر بأنه ليس أهلا لما يواجهه .. فهؤلاء الناس بسطاء ويأخذون الحياة بمثل ما فيهم من بساطة .. ولكنه هو عاش فى العقد .. فكيف يتخلص من كل هذه العقد ..

وكان فى الغرفة مقعدان فجلسا عليهما وفتحت كاترينا الراديو على موسيقى هادئة .. وخلعت حذاءها الطويل ..

وقالت له وكان لا يزال فى كامل ملابسه :
ـ هل تحب أن تنزل إلى الطابق الأول ونشاهد التليفزيون ..؟
ـ لا .. الأحسن نستريح ..
ـ إذن أخلع معطفك ..

وفتحت له الدولاب وخلع المعطف والجاكتة .. وعاد ينظر إليها ويحدد لنفسه المكان الذى سينام فيه .. سيضم المقعدين معا .. ولكن بأى شىء سيتغطى .. وليس على السرير سوى غطاء واحد .. ملاية وبطانية ثقيلة .. هل يأخذ من فراشها ويكون السبب فى مرضها وقد تعبت من أجله وتحملت فى سبيله كل هذه المشقة .. وقرر أن يتغطى بالمعطف ..

وكان يود أن يسألها ما الذى كتبته بخطك فى دفتر الفندق .. ولكنه وجد فى مجرد السؤال حماقة ..

وسره جدا وجود الحمام فى الداخل .. فدخلت هى وغيرت ملابسها وخرجت ببيجامة صوفية بيضاء وكأنها من بنات الحور ..

ووضعت ملابسها فى الدولاب .. وقالت :
ـ هل تحب أن تأخذ حماما .. إنه ينعشك ..
ـ اغتسلى أنت من تراب القاهرة أما أنا فقد تعودت عليه ..
ـ ليس فى القاهرة تراب .. بل نظافة وجمال فى كل مكان ..

وخجل من قولها لأنها تقول كل ذلك من أجله .. وانسابت كالطيف إلى الحمام وعاد ينظر من النافذة .. وسمع صوت الدش الساخن فأدرك أنها تعرت واستسلمت للماء الدافىء .. وشعر باضطراب ..
فلأول مرة يجتمع مع أنثى غريبة عنه دون سابق معرفة فى غرفة واحدة ..
كان صوت الماء يقلقه .. ويسبب له مشاعر صارخة ..

وعاد بمشاعره وأدرك حس المرأة الريفية فى بلده .. التى لا تستحم قط حتى وزوجها فى البيت .. لابد أن يخلو البيت تماما من كل أحد .. ثم تدخل بعدها إلى الحمام ..

وخرجت كاترينا تفرك شعرها وتدلكه وتنشفه .. ثم جلست إلى المرآة فحول هو وجهه إلى النافذة ..

وسألته :
ـ لماذا تستدير ..؟
ـ يشوقنى منظر الليل وتساقط الثلوج .. والمرأة لا تحب أن ينظر إليها وهى تتزين ..
ـ ولكن أحب أن أرى وجهك ورائى وأنا جالسة هكذا .. وأرى فيه وجه والدى ..
ولسعته الكلمة على ما فيها من حقيقة ..

فسألها :
ـ والدك فى استوكهلم ..؟
ـ أجل ..
ـ وتعيشين معه ..؟
وابتسمت وأجابت :
ـ لا .. من سن العشرين وأنا أعيش وحدى حتى قبل الزواج .. ومثل هذا يحدث للشاب فى دول الشمال .. وستجد هذا فى كوبنهاجن عندما نتجول فيها غدا وتختلط بناسها .. كل بحياته المستقلة .. ولكن الحنين إلى الأسرة قد يعود أكثر مما تتصور ويقدر خيالك .. لقد رأيت فيك وجه والدى الذى ابتعد منذ عشرات السنين .. وشعرت نحوك بعاطفة لا تستطيع تفسيرها .. فهل تفسرها أنت ..؟

وشحب لون وجهه وقال وهو يوليها ظهره :
ـ إنها مجرد شفقة .. وأرجو أن تظل إلى أن نفترق .. وسأظل أحتفظ لك بهذا الجميل ..
ـ هيا إلى الحمام ..

وخرج بعد قليل وقد أنعشته المياة الدافئة .. وكأنها غسلت أوضاره .. وطالعها بوجه ضاحك ..

وسمعا الموسيقى والغناء بالإنجليزية .. وتحدثا كثيرا عن أفذاذ الرجال فى العالم الذين خدموا الإنسانية فى كل مكان ..
وشعرا بالحاجة إلى النوم ..

وانتفضت كالعصفور وقالت وهى تشير إلى الفراش :
ـ أتحب أن تنام بالداخل أم بالخارج ..؟
ـ لن أنام بالداخل ولا بالخارج .. سأنام على هذا المقعد ..
ـ مستحيل هذا .. ستجعلنى قاعدة وجالسة هكذا إلى الصباح .. لماذا تتعبنى ..؟

وظل فى مكانه يحاورها .. وأمسكت بيده وطاوعها وذهب وراءها وكانت تريد أن تنومه بالداخل ..
ولكنه قال لها :
ـ دعينى فى الخارج لأنى أستيقظ مبكرا ولا أحب أن أزعجك فى نومك وأنا أتحرك ..

ودخلت وانزلقت بخفة قبله وسحبته .. واسترخى على المخدة المحشوة بالريش .. وبخفة سحبت البطانية والملاءة عليهما معا وأغلقت النور ..

وظلت تتحدث وهى نائمة ورد عليها ثم تناوم .. وشعر باضطراب شديد وهو بجوارها وملاصقا لجسمها .. وخشى أن تشعر به وهو يرتعش .. فظل متماسكا إلى أن أحس بأنها استغرقت فى النوم ..

فانسحب على مهل .. وتمدد على المقعدين وتغطى بالمعطف .. وكانت الغرفة دافئة فلم يشعر ببرد يجعله لا ينام ..

***

ولما استيقظت وفتحت عينيها وجدته بكامل ملابسه .. فأسرعت إلى الحمام ..

وقالت له أنها ستسافر بالقطار إلى استوكهلم فى المساء .. لتقضى النهار كله معه .. وقبل سفرها ستسلمه إلى زميلة لها فى الجامعة .. وستذهب إليها فى بيتها فى الريف الملحق بالجامعة .. ومن هناك سيجد الفرصة لمشاهدة ضواحى كوبنهاجن ..

واتصلت كاترينا بصديقتها انجلينا تليفونيا لتعلمها بمقدمهما بقطار الضواحى .. فقالت لها هذه أنها ستنتظرهما بسيارتها على المحطة ..

وخرجا من الفندق بالحقائب بعد دفع الحساب واستقلا تاكسيا إلى المحطة .. وقالت تداعبه .. أمام آلة قطع التذاكر ..
ـ هل تعرف تشغيل الآلة ..؟
ـ أجل .. كم كرونا هناك ..؟
ـ خل عنك القطار قادم ..

وقطعت التذكرة وأسرعا إلى القطار بالحقائب .. وأجلسته بجانب النافذة ليرى جمال الضواحى وانطلق القطار كالسهم .. وحوله الفيلات الخضراء على الجانبين والأرض بياض فى بياض .. وسقوف الفيلات مغطاة بالثلوج والطرق تموج برغاوى الصابون منازل صغيرة جميلة بسقوف محدودبة من طابقين .. ثم من طابق واحد .. ولا أرجل حولها ولا حس إنسان فى داخلها لكثرة تراكم الثلوج ..

وفى الضاحية الهادئة وجدا صديقتها " إنجلينا " تنتظرهما فى داخل المحطة ولم يظهر على وجهها الاستغراب وهى ترى الغريب بل رحبت وأدخلتهما فى سيارتها الصغيرة التى تشبه فى سوادها الخنفسة .. وحشرت الحقائب حشرا ولكن بنظام وزحفت بها على الثلج وهى تقول كأنها تسمع " صبرى ":
ـ بهذه الخنفسة أذهب فى الصيف إلى ألمانيا .. والنمسا وإيطاليا .. فلا تتصور أنها عاجزة عن السير .. إنها أحسن من كل السيارات الكبيرة ..
ـ نرى هذا بوضوح .. وكل شىء يرجع إلى براعتك فى السواقة ..
ـ نعم .. نعم .. وضحكوا

وبلغت فيلتها .. ولم يكن فى الفيلة سواها .. وقدمت لهما الكعك والشاى وقالت :
ـ بعد قليل سنذهب إلى المدرسة الملحقة بالجامعة .. لنشاهد رسوم الطلبة وأعمالهم فى الرسم والحفر وصنع التماثيل ..

وكانت السيدة " إنجلينا " فى سن " كاترينا " ولكنها أكثر منها سمنة وأقصر عودا .. وكان وجهها أبيض مستديرا كوجوه الألمانيات .. وتبدو وهى فى سن الأربعين فى رشاقة وحيوية الفتيات فى سن العشرين .. وكان وجهها الضاحك يتأمل ويقرر فى لحظة واحدة .. فقد أدركت أن كاترينا وقعت على هذا الضيف فى سفرها وإن لم تعرف بعد أن الضيف مصرى وجاء فى مهمة علمية بحتة ..

وأجلستهما وراء شرفة زجاجية ليتمتعا بمنظر الثلج الساقط على الحقول .. وذهبت وعادت تقول :
ـ والآن سنذهب إلى مدرسة المواهب .. الملحقة بالجامعة وأظنك لا تعرف أيها الجنتلمان .. أن كاترينا رفيقتك فى السفر .. اشتغلت هنا كمدرسة سنتين متصلتين ثم تركتنا ..!

ولم يكن صبرى يعرف إلى هذه اللحظة أن كاترينا تشتغل مدرسة أو اشتغلت مدرسة .. وسرته هذه المعرفة فقد وقع على انسانة مثقفة وحمد الله على أنه إلى هذه الساعة لم يقع بينهما ما يجعلها تسىء الظن به ..
واستطردت إنجلينا :
ـ وأرجو أن نجد العميد ليشرح لك كل شىء فى مدرسة المواهب ..

ولم يجدوا العميد لأن اليوم كان يوم أحد .. ووجدوا الأستاذ هيرمينى أستاذ اللغة الإنجليزية .. وشعر صبرى برجفة عندما أهل عليهم هذا الأستاذ بوجهه .. شعر برجفة لم يشعر بمثلها وهو يلاقى إنسانا .. وجه أبيض طويلا بلحية خفيفة .. وعينين خضراوين تبرقان .. وتتحدثان بالطيبة والدماثة ولين الجانب .. والترحيب بكل إنسان ..

تقدم الأستاذ " هرمينى " ودار معهم فى الحجرات يشرح الرسوم والتماثيل التى يصنعها طلبة من كل أجناس الأرض يأتون إلى هذه المدرسة .. ويقيمون فيها داخليا ليوسعوا من مداركهم ، ويطلقوا العنان لمواهبهم المحبوسة .. دراسة حرة فى الاجتماع وعلم النفس والفسفة واللغات والرسم والحفر وصنع التماثيل ..
كان فى الحائط وجوه مرسومة رسمه الطلبة أشبه بوجوه نيرون .. جانكيز خان .. هتلر .. موسلينى ..وأشار الأستاذ " هيرمينى " إلى هذه الرسوم وقال وهو يشرح ويعلق :
ـ لماذا هؤلاء فقط .. ولماذا دار هؤلاء فقط فى رؤوس الطلبة .. وأخرجوهم بهذه الصورة .. ولماذا لا يكون معهم كل طغاة البشرية ..؟ كل من حاول من عصر نيرون تدمير البشرية وتلطيخ وجهها بالطين ، الذين ألقوا القنبلة الذرية ، والقنابل السامة على الشعوب الآمنة ، والذين عذبوا الأبرياء فى السجون ، وهتكوا أعراض النساء ، والذين سحقوا بجيوشهم ودباباتهم الأطفال الرضع .. والذين سمموا دم البشرية بحيلهم وخداعهم ، وعلقوا رجالها الأفذاذ فى المشانق ليخلوا لهم الجو لتدمير الحياة .. لماذا اختار الطلبة هؤلاء فقط ..؟ لا أدرى ..
واستدار الأستاذ " هيرمينى " وسأل صبرى :
ـ هل أعجبتك الرسوم والتماثيل ..؟
ـ إنها تعبر عن مشاعر صادقة .. استفادت من الدراسة وأفادت .. مواهب انطلقت من عقالها ..
وظهر السرور على وجه الأستاذ هيرمينى وقال :
ـ شر ما يصيب الإنسان هو ألا يجد متنفسا لموهبته .. وهنا جعلنا هذه المدرسة للتنفيس .. إننا لا نسجن عاطفة ، كما لا نحب أن نسجن إنسانا ..
إن البشرية تعذبت من الطغاة الذين دمروا نفس الإنسان .. بأى صورة من الصور ، إن هذا الشاب الذى لطخ هذا الوجه الذى تراه وشوهه يبحث فى نفسه عن آلة يدمر بها كل من يقف فى طريقه .. وقد وجد هذه الآلة فى رسم هذه الصورة البشعة .. واستراح بعدها ..
ودار بهم الأستاذ هيرمينى فى كل القاعات ثم قال :
ـ والآن سنذهب إلى المكتبة ونستريح ونشرب القهوة .. وفى المكتبة رأى " صبرى " معظم أدباء العالم مرسومة بيد الطلبة .. جويس .. همنجواى .. دكنز .. اسكار وايلد .. دستوفسكى .. تولستوى .. جوته .. تشيكوف .. كريستيان أندرسون .. أوجست استرندبرج .. سلمى لاجرولوف ..
وقال هيرمينى :
ـ هذا همنجواى فارس الكتاب فى الحلبة وأبلغ من كتب بالإنجليزية .. يسقط صريع الوساوس .. لأنه وجد أن حياته عبث فى عبث .. ورسالته لم تحقق شيئا ابتغاه وسعى إليه بأظافره .. لقد اشترك فى الحروب ولمس أوضار العالم بأصابعه العارية .. ولكنه لم يوقف حربا ، ولم يستطع أن يدافع عن مظلوم .. إن العالم يحركه رجال السياسة حسب أطماعهم .. ولهذا انتهى بالانتحار كما رسمه الطلبة ..
ودكنز الذى صور حوارى لندن وأزقتها وأعاد بكتاباته إليها النور والنظافة .. وصور بؤس أطفال الملاجىء .. انظر إليه .. لقد رسموه فى حانة قذرة يهذى .. وقد سقط القلم من يده ..
وهذا اسكار وايلد المتألق فى هندامه وكلامه يخطب فى أمريكا الفن للفن .. ويخرج من السجن شريدا طريدا .. ليعيش فى باريس جائعا معذبا كما تراه الآن وكما رسمه الطلبة ..
واستدار الأستاذ إلى صبرى وسأله :
ـ هل قرأت يوليسيس .. لجويس ..؟
ـ منذ سنوات ولكنها لا تنسى ..
ـ يقول " فورستر " وهو استاذى الكبير عن هذه القصة :

ـ لقد لطخ جويس فى هذه الرواية وجه العالم بالوحل .. رمى فى وجه العالم الأوحال .. ومسز " بلوم " المرأة الهلوك المتعطشة لكل رجل ولا ترد يد طالب ، هى فى نظره امرأة العصر ، وكذلك كان يلوم نفسه الشهوانى المتقلب ..
وغرضه من هذا هو تشويه وجه البشرية مادامت لم تسع إلى الخلاص من أوضارها ..
سقطت حضارتها ، وسقطت كل المظاهر البراقة فيها ، وكل مظاهر التقدم .. مادامت لا تستطيع أن تدافع عن إنسان مظلوم ، ولا تقف فى وجه مدمر طاغية حرب ، حرب لسبب ولغير سبب .. دمار وجوع ..

وأضاء وجه الأستاذ " هرمينى " وجه الإنسان وهو يشير إلى تولستوى وديستويفسكى المرسومين على الحائط ..
ـ انظر إلى هذين ، لا يوجد من كتاب العالم من لاقى مصيرهما المحزن .. إن ما سعى إليه هؤلاء وتسعى إليه البشرية هو خير الإنسان .. ويجب أن نأخذ عظة من الذين دمروا الحياة .. ولا نعاود تدميرها . إن الرجل الذى يذهب من السويد إلى أقصى الأرض ليعالج البشرية من مرض الجذام .. هو الذى نصنع له التمثال .. وليس الذى يخترع القنبلة الذرية .. وقنبلة النيترون .. ويخترع التدمير ويقود الجيوش إلى الحروب ..وإننا لا نصفق للذى يضع قدمه على أرض القمر .. ولكنا نصفق للذى يغسل عن البشرية عارها .. من الجوع والبطالة وكل صنوف الدعارة التى يسببها الجوع .. إن حياة البشرية وسعادتها مرهونة بخيار رجالها .. إن هذا الكلب سيقتله البرد لو ترك هكذا فى الخارج كما تراه دون مأوى ودون دفء ، وكذلك المريض فى هذه الفيلات التى نشاهدها ، وكل جائع فى الأرض يجب أن نوجد له القوت أولا قبل التباهى بركوب السحاب والوصول إلى الكواكب ووضع الأقدام والسير بها على سطح القمر ..
إن هذا كله مظاهرة تهريجية إلى عالم الكواكب ، وننسى الجوع والبطالة والتشرد فى كل مكان ، ونسعى إلى التفاخر ، ولا شىء غير التفاخر ، والله الذى خلق السموات والأرض وما بينهما يعرف حماقة هؤلاء ..
وأنت يا أستاذ صبرى ، كما علمت من كاترينا .. أستاذ لغة وتدرس للطلاب ، وقد سرنا هذا للغاية ، ونحن نقوم بنفس عملك ، ولكنا وقبل تعليمهم اللغة ، نعلمهم كيف يعيشون فى الحياة ، ويسعون إلى الخير لكل إنسان مهما تكن جنسيته وتكن صفاته .. ولنسأل أنفسنا بعد كل ساعة تمضى من عمرنا ، ما الذى فعلناه للبشرية لنخفف من آلامها .. وأرجو أن تسمحوا لى بالغياب لمدة ساعة سأزور فيها بعض الأصدقاء فى الفيلات المجاورة .. وبعدها سنجلس جميعا لتناول الغداء ..
وتغدوا جميعا فى قاعة الطعام وتغدى معهم هذا الإنسان الأستاذ هيرمينى .. بوجهه المشرق الضاحك الوضاء فى كل ساعة ..
***
ولما اقترب موعد سفر كاترينا ترك الأستاذ وإنجلينا .. المكان لكاترينا وصبرى رفيقها فى السفر ليكونا فى خلوة إلى حديث خاص أو إلى عناق قبل السفر .. ولكنهما لم يتعانقا وافترقا فى لوعة ..
وذهبوا جميعا يودعون كاترينا فى المحطة وعادوا إلى المدرسة وخصصت حجرة لينام فيها صبرى .. وأخذت السيدة إنجلينا ترعاه وتؤنسه وتسمعه أعذب الموسيقى .. وتقص عليه أجمل ذكرياتها مع كاترينا .. واستراح إليها صبرى لوداعتها ورقتها وفرضت عليه احترامها .. وهناك نساء يفرضن عليك الاحترام من أول لقاء .. ولما قرأت فى عين ضيفها النوم تركته لينام ..
ودخل صبرى حجرته ونام وبعد منتصف الليل تحرك إلى دورة المياة وكانت خارج الغرفة فبصر من وراء الشرفة الزجاجية شبحا نائما تحت الثلوج ..
ورغم تساقط الثلج بغزارة لبس معطفه ودفع باب الشرفة وخرج إلى الحديقة واقترب من الشبح فعرف أنه الأستاذ هيرمينى بوجهه الأبيض وقد طمرته الثلوج فأدرك أنه كان يتجول فى الحديقة أو يزور شخصا فى الفيلات المجاورة وأدركه التعب وهو راجع أو حدث له توقف فى القلب فسقط فى مكانه ..
واقترب منه صبرى جدا .. وهتف باسمه وحركه .. ولكنه كان بغير حراك .. مات ..
فما الذى يفعله صبرى فى هذا الليل المثلج ..؟ يسرع إلى منزل إنجلينا .. لا .. فى هذه الساعة ..؟ لا .. لا شىء يستطيع فعله وهو وحده فى هذا الجناح . عاد إلى غرفته يرتعش من الخوف لقد مات الرجل الإنسان .. مصباح المدرسة ونورها فى يوم قدومه فأى نحس وأى عذاب ..!! لقد جاء إلى هذا المكان ليحضر جنازة أعظم إنسان رآه ..
ظل فى مكانه من الحجرة يرتعش ويبكى ..
***
ولما ظهر النور من وراء الزجاج كان الثلج قد انحسر وبرزت الشمس ..
فخرج صبرى إلى الشرفة الطويلة ليتجه منها إلى منزل إنجلينا لإعلامها بما جرى ..
وفى طريقه سمع أقداما خفيفة من بعيد ولما اقتربت منه رأى الأستاذ هيرمينى بلحمه ودمه كأنه بعث من لحده .. وحياه هيرمينى فى بشاشة تحية الصباح ..
ولكن صبرى لم يقو على تحمل الصدمة وسقط فى مكانه أمام الأستاذ هيرمينى .. ولما فتح عينيه وجد نفسه فى حجرته وفى فراشه ..
وسمع الأستاذ يقول لإنجلينا :
ـ فى المساء اقطعى له تذكرة إلى استكهولم ليسافر فى نفس القطار الذى سافرت فيه كاترينا وهزت إنجلينا رأسها موافقة وابتسمت ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة " مايو " العدد 59 فى 15/3/1982 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى بعنوان " قصص قصيرة " الناشر المجلس الأعلى للثقافة ط 2000ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




ليست هناك تعليقات: